في وقت يسلك اللبنانيون «طريق جهنم» نحو السقوط الأخير، خطف الجيش اللبناني وقائده المشهد، بعد كلامه مع أركان القيادة وقادة الوحدات الكبرى والأفواج المستقلة وأعضاء المجلس العسكري. كانت سابقة للبنانيين، أن ينطق «الصامتُ الأكبر»، بما يقولونه منذ 17 تشرين 2019، ويفترشون الشوارع من أجله. ففرح لبنانيو الانتفاضة، وأصيب لبنانيو الطبقة الحاكمة بـ»نقزة»، أن يكون جوزف عون مشروع رئيس جمهورية، في وقت يعتبر البعض أنّ اللبنانيين ضاقوا من العسكر في الحكم.
تدقيق وتحليلات وتساؤلات خضع لها كلام قائد الجيش، خصوصاً بعدما استشعر اللبنانيون أنّهم قد يعيشون تجربة تونس في ربيعها العربي، لكن سرعان ما توقف عدّاد الرهانات والآمال، بعد أن عمل الجيش على إخراج المحتجين من الشارع وفتح الطرق، بالتزامن مع اقتراح قانون «المليون ليرة» الذي قدمه النائب علي حسن خليل، ما فُهم أنه «رشوة» لتأمَن المنظومةُ الحاكمة الفاقدة للشرعية والمشروعية جانبَ الجيش، فتخضع لطلباته لتؤمّنَ بقاءها في السلطة وقتاً أطول.
في المقابل، كُثُر حاولوا استغلال خطاب العماد جوزف عون بالسياسة، فاعتبروه من جهة خطاباً رئاسياً، ومن جهة أخرى، حاولوا دق إسفين بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، في محاولة لإظهار وجود توتر في العلاقة بين الطرفين، فيما الواقع عكس ذلك. فبعد اجتماع بعبدا، حصل اجتماع بين رئيس الجمهورية وقائد الجيش وكان ودياً وايجابياً، ولم يطلب فيه الرئيس عون من العماد عون فتح الطريق كما سرّب البعض، بل ان الرئيس كان متفهّماً لوجهة نظر قائد الجيش الذي فضّل التريث وانتظار التوقيت المناسب لفتح الطرق، وترك الناس تعبّر عما يزعجها. وبالتالي، على عكس ما أثير وتَردّد، لم يعترض قائد الجيش على مسألة فتح الطريق أو انه رفض الاستجابة.
يعرف قائد الجيش حبك خيوط اللعبة جيداً. من يعرفه والقريبون منه، يخبرون أنه رجل مناقبي، واقعي، يعرف حجمه، لا بل يعرف جيداً كيف يرسم حدود لعبة السياسة في العسكر، ويتقن فنّ الضرب وراء خطوط السياسيين.
لذلك، يمكن وصف خطابه على أنه صرخة، ودق لناقوس الخطر، أمام حجم الانهيار الحاصل في البلد، ومع الاقتراب السريع من الارتطام الكبير. ولم يأتِ كلامُه رفضاً لقرار السلطة السياسية بل هو عَمل على تجنّب الانفجار، فأعطى الناس متنفّساً للتعبير، وفَتح الطريق في الوقت المناسب، وهذا ما كان قد أبلغه إلى المعنيين. وقرار فتح الطرقات جاء بعد تزايد الحوادث والتجاوزات على الأرض. وتلافياً لأيّ صدام، يمكن أن ينشأ عنه تعريض السلم الأهلي للخطر، اتُخذ القرار بفتح الطرق من دون حصول أي اشتباك مع أحد.
يعلم قائد الجيش، بحسب القريبين منه، أنّ تركيبة لبنان الطائفية والسياسية والظروف في البلد لا تسمح بأيّ انقلاب. لذا، فإنّ الرهانات في هذا الإطار غير واقعية، كما أنّ جوزف عون لا يملك فكراً انقلابياً لترؤس السلطة، همّه الأساس أن يبقى الاستقرار موجوداً، وخطابه لم يكن تمرّداً وليس في هذا الوارد، وهو يؤكد مراراً ان الجيش على علاقة جيدة مع الجميع وعلى مسافة واحدة من الجميع. وبالتالي، فإنّ الجيش اللبناني هو جيش نظامي، وهو ليس جيش السلطة، مهمته ليست حماية الطبقة السياسية بل حماية مؤسسات الدولة، معاناته هي نفسها معاناة الشعب، وهدفه المحافظة على الاستقرار والسلم الأهلي ولا يدخل في المجال السياسي.
هذا، لم يمنع المشككين من اعتبار أنّ اقتراح المليون ليرة الذي قدمه النائب خليل، جعل قائد الجيش يتراجع، ويخضع لسلطة سياسية، خضعت بدورها لتحذيراته، وإلّا لما سَحب الجيش الحماية عن المحتجين في الشارع. هو أمر ترفضه قيادة الجيش بكل مضامينه. وإنّ أحداً لم يناقشها في اقتراح «المليون ليرة» لا قبل خطاب القائد ولا بعده، ولم يؤخذ رأي قيادة الجيش، كما يؤكد مصدر عسكري لـ»الجمهورية». وبالتالي، «لا السلطة السياسية خضعت لقيادة الجيش، ولا الجيش خضع للسلطة السياسية».
ويضيف المصدر: «من يعرف العماد عون يعلم جيداً أنه لا يخضع لأحد، ولا يَسمح بأن تُملى عليه أفعالُه. هو يتخذ قراراته انطلاقاً من ضميره ومن مسؤولياته الوطنية، وهذا لا يتناقض مع طبيعة التراتبية الموجودة، والتي تُخضع المؤسسة العسكرية حكماً وقانوناً لقرارات السلطة السياسية. في الوقت نفسه، فإنّ المؤسسة العسكرية لديها كل الثقة بعسكرها، وعلى رغم حجم الضائقة المالية، هي على ثقة بأنهم لن ينقلبوا على أوامر قيادتهم. هدف الجيش السلم الأهلي، والجيش لا يحمي أشخاصاً بل يحمي مؤسسات. وانطلاقاً من صلب هذا المبدأ، يؤمّن الحماية لمجلس النواب ولمجلس الوزراء ولأي مؤسسة عامة».
يرفض الجيش الإشاعات والاتهامات التي سيقت ضده عن انه يقف وراء التحركات والاحتجاجات الأخيرة، بل يؤكد المصدر العسكري أنه وقف كـ»مراقب» وترك الناس «تفش خلقها». وبغضّ النظر عمن حرّك الأرض أكانوا أحزاباً أم غير أحزاب، قام الجيش بمسؤوليته، وحمى حرية التعبير السلمي ومنع اي اصطدام». كما أن الجيش بريء من الشعارات التي طالبت بتسلّمه الحكم، فهو يدرك أنه أمر مستحيل في لبنان، فلا الظروف مؤاتية ولا تركيبة المجتمع الطائفية والسياسية تسمح بأن يستلم الجيش الحكم».
في الشق الرئاسي، يؤكد المصدر العسكري أنّ «خطاب اليزرة لم يكن خطاباً رئاسياً. العماد عون لم يقدّم نفسه مرة رئيساً او مرشحاً للرئاسة، ولا نية لديه للترشح لرئاسة الجمهورية، وإلا لما رفض التدخلات السياسية بشؤون الجيش، إن في التشكيلات أو الترقيات أو في مديرية المخابرات وقادة الألوية والوحدات، ولكان على علاقة ممتازة مع السياسيين، فهو دائماً ما يردّد انني قريب من الجميع وفي الوقت نفسه بعيد عنهم».
معونات للجيش
ليس سراً أنّ الجيش يمرّ في ضائقة مالية كبيرة على غرار مؤسسات البلد كلّه. ونتيجة سياسة التقشف المتبعة منذ فترة، توقفت المؤسسة عن شراء اللحمة، ويتم خفض استخدام المحروقات، وتوقفت الدورات التدريبية. ونتيجة تقليص موازنته، تم سحب معظم الملحقين العسكريين في الخارج، باستثناء الموجود في الولايات المتحدة الأميركية.
أمّا السلاح، فعادة ما يأتي على شكل مساعدات وهبات من الخارج، خصوصا من أميركا وبريطانيا وفرنسا وكندا ودول عدة أخرى. كما ان الجيش عادة ما يتلقى مساعدات وهبات من الخارج، من دول أو من الجالية اللبنانية او مواطنين لبنانيين، من دون أن تمرّ بما سُمي بالقنوات الرسمية، فله الحق في أن يتسلّم اي مساعدات وهبات.
مخاطر الوضع الأمني
وسط هذه الأجواء، ترتفع محاذير الوضع الأمني نتيجة تلاشي المنظومات التي يُبنى عليها البلد، مالياً واقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً وثقافياً ومؤسساتياً، ما يطرح علامات استفهام عن إمكان صمود المنظومة الأمنية والعسكرية، وقدرة الجيش على المبادرة. ويأتي ذلك مع ما تحدث عنه العماد عون عن «حملات متواصلة، إعلامياً وسياسياً بهدف ضرب الجيش وفرطه، والتي قد تسبب بفرط الكيان».
لم يفصح المصدر العسكري عن الجهات التي تهدّد لبنان والجيش، لكنه يوضح أنّ «طريقة تعاطي السياسيين مع الجيش تهدّده. وتصرفاتهم تجاه المؤسسة العسكرية تشكل خطراً عليها، مع العلم أنّ المؤسسة العسكرية تحيّد نفسها دائماً عن اي صراعات، وقائد الجيش يحاول بشتى الوسائل إبعاد السياسيين عن الجيش لإبقاء المؤسسة متماسكة».
ويقول: «على رغم التهديد الاسرائيلي والتهديد الارهابي، الموجودَين في استمرار، إلّا أنّ الهاجس الأكبر لدى الجيش اليوم هو الأمن الاجتماعي. لذلك، هو موجود على الارض اليوم لتفادي ومنع أي تجاوزات وسرقات وعمليات قتل، تكون ناتجة من عدم الاستقرار الاجتماعي والمعيشي. والجيش على جهوزية تامة في كل الأوقات للتعاطي مع أي خلل أمني، أكان على الحدود أو في الداخل. وعلى رغم كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه، إلّا أن الجيش ما زال يملك القدرة على ضبط الأرض والأمن. مع الاخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي المؤثر على العسكر الذي هو ايضاً جزء من المجتمع». ويعتبر أنّ «المطلوب من القوى السياسية الفاعلة، وفي أسرع وقت، إيجاد الحلول الكفيلة بنزع أيّ فتيل تفجير، على الصعيد السياسي والمالي خصوصاً، وهما ينعكسان سلباً على الجميع».
ويؤكد المصدر العسكري أن «لا معلومات لدى الجيش عن عمليات اغتيال محتملة، لكنه يرى انّ الوضع غير مريح، والخلايا الارهابية ما زالت موجودة وقد يكون لديها النية لزعزعة الوضع الأمني وضرب الاستقرار، لكنّ الجيش عينه ساهرة، وهو سيواصل جهوده للمحافظة على مقدّرات الدولة ومؤسساتها وعلى الشعب».