قاسم يوسف – أساس ميديا
ثمّة تطور استثنائي أُضيف إلى المعادلة الداخلية، يكمن في دخول قائد الجيش على خطّ اللعبة السياسية، وهو تطور لا بد من لحظ مفاعيله، ومواكبة تداعياته المباشرة وغير المباشرة، لا سيما وأنه يأتي تزامنًا مع سياسة قضم الأصابع في الداخل وعلى مستوى المنطقة برمّتها.
لماذا بادر قائد الجيش إلى قول ما قاله؟ وما هي الأهداف الحقيقية التي تؤسس لتوثّب من هذا النوع؟
في الشكل، هناك عوامل كثيرة تدفع جوزف عون نحو رفع حدة خطابه، بهدف مواكبة عملية الانهيار المعنوي التي تتعرض لها المؤسسة العسكرية، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية التي لامست أسوأ مراحلها على الإطلاق، وهي لا تزال تشهد انهيارًا مستمرًا ومتدحرجًا، وهذا ما انعكس بشكل مؤكد ومباشر على معنويات العسكر والضباط، الذين فقدوا ما يفوق ثلثي قدراتهم الشرائية، ناهيك طبعًا عن وظيفتهم المستجدة في قمع التظاهرات المطلبيّة، الأمر الذي يضع الجيش في مواجهة الناس وأوجاعهم، مقابل حماية الطبقة السياسية المسؤولة تمامًا عن الوضع الكارثيّ الذي وصلت إليه البلاد.
في الشكل أيضًا، بدا قائد الجيش حاسمًا وحازمًا وشديد الوضوح، إن لجهة التركيز على صون تماسك الجيش رغم الظروف العصيبة، مع التلويح والتحذير من إمكان انهياره، أو لجهة الإشارة إلى مسؤولية الطبقة السياسية الكاملة عن تردّي الأوضاع برمّتها، وعن مساهمتها بتدمير معنويات المؤسسة العسكرية، مؤكدًا أنّ السياسيين غير آبهين بالجيش أو بمعاناة عسكرييه.
الأهم من ذلك كلّه، هي المضامين العميقة لهذه المواقف المستجدة. إذ لا بد من ربطها بسلسلة أحداث وتطورات، وعلى رأسها الإجماع شبه الدولي على تحديد المسؤولين عن تعطيل تشكيل الحكومة، وهو إجماع يشمل مختلف الدول الوازنة في العالم العربي، من مصر إلى الخليج، مرورًا بفرنسا والدول الأوروبية المعنية بالملف اللبناني، وصولًا إلى أميركا وحتى روسيا، التي عبّرت بكل وضوح عن رفضها حصول أيّ طرف سياسي على الثلث المعطل في الحكومة الجديدة، وهذا ما اعتبره كثيرون رسالة واضحة وموقفًا متقدّمًا ولافتًا بوجه ميشال عون وصهره.
يُضاف إلى هذا الإجماع الدولي النادر، المبادرة الاستثنائية التي بادر إليها البطريرك الماروني على المستوى الداخلي والخارجي، فبدا مذّاك الرئيسَ الفعليَّ للجمهورية اللبنانية، لا سيما في ظلّ العزلة المتزايدة التي يعيشها ميشال عون، ناهيك عن التماهي الشعبي الواسع مع مضمون خطابه التاريخي، وهذا ما منح قائد الجيش هامشًا واسعًا ومظلّة كبرى للتحرّر من بعض الضوابط والحساسيات، التي طالما حالت دون ذهابه بعيدًا في مسار شديد الخطورة والتعقيد.
المعنيّ الأول بهذه المواقف، هو قطعًا ميشال عون وصهره وفريقه اللصيق. وهنا لا بد من التذكير بما نُقل عام 2019 عن لسان قائد الجيش. فقد ذكرت معلومات صحافية آنذاك، أنّ جوزف عون توجّه إلى رئيس الجمهورية على هامش اجتماع بعبدا بالقول: “لقد حذّرتك أكثر من مرّة من المخاطر الأمنيّة الناجمة عن تصرفات جبران باسيل، ولم تتحرك فخامتك. الآن مطلوب منّي أن أحرق الجيش وأعرّض نفسي للمحاكمة في لاهاي من أجل باسيل. لن أقوم بفتح الطرقات بالقوّة. أنت يا فخامة الرئيس افتحها بحكمتك”.
عمليًّا، فقد العهد آخر حصونه بعد هذه المواقف، وقد بات عاريًا تمامًا، خصوصًا بعد العقوبات الأميركية التي طاولت جبران باسيل، ثم الانسحاب المباغت لبكركي من حالة المهادنة والصبر والتريّث، إلى حالة التوثب والمبادرة والهجوم، لتأتيه الضربة القاسية من قائد الجيش، الذي عبّر بكل وضوح عن تماهيه المطلق مع مضامين كلام البطريرك، ومع الجو الداخلي والخارجي الذي يتمحور بغالبيته حول الخلاصة نفسها.
لا شك أنّ معركة رئاسة الجمهورية المقبلة هي الأساس لمجمل تفاصيل وعناوين هذا الاشتباك، لا سيما وأنّ جوزف عون بات واحدًا من أبرز المرشحين، داخليًّا وخارجيًّا، لخلافة ميشال عون. لكنّ هذه المواقف تثير حفيظة وتوجّس حزب الله، رغم معرفته الدقيقة بأنها غير موجهة إليه. أصل هذا التوجس يستند إلى خشية حزب الله من تطور هذه المواقف لتلامس روحية المواقف التي أطلقها البطريرك، خصوصًا لجهة الإشارة إلى حصر السلاح وقرار الحرب والسلم، ما سيفتح المشهد برمّته على واقع جديد عنوانه الاشتباك المباشر بين حزب الله والجيش. وهنا لا بد من التوقف مليًّا أمام الحديث المتداول عن التصفيح المستجد لمكتب قائد الجيش، ما يعني بطبيعة الحال أنه يشعر أو يستشعر خطرًا أمنيًّا داهمًا أو محدقًا.
أولى اشارات التهيّب من مواقف قائد الجيش تمثلت في الاندفاعة السريعة نحو اقتراح سلفة مالية على شكل رشوة سياسية للقوى الأمنية، لأنّ المطلوب أن تبقى هذه القوى على سجيّتها في السمع والطاعة، لكنّ كلام جوزف عون يشي بخلاف ذلك.
ما هي الخطوة التالية؟ ما هو المطلوب من جوزف عون تحديدًا؟ وهل من قدرة على فرض واقع جديد؟
لا شك أنّ دربه شديد الصعوبة، وأنّ الإجابة على هذه الأسلئة أصعب. لكن ثمّة حالة استثنائية حفرت عميقًا في وجدان اللبنانيين، وحافظت على الدولة وعلى الجيش وعلى النظام، وعلى التوازن السياسي الدقيق. هذه الحالة اسمها فؤاد شهاب. القائد الشجاع والرئيس الحكيم.
فهل يكون مثالًا يُحتذى؟