تركيا تخلط الأوراق الإقليميّة مجدداً؟
ناصر قنديل-البناء
قبل ست سنوات كانت تركيا رأس الحربة في الحرب المركزية التي تخوضها واشنطن في المنطقة، وكانت سورية المستهدف الرئيسيّ فيها، وكانت أوروبا ودول الخليج وكيان الاحتلال تصطف كلها في هذه الحرب، قبل أن تتموضع روسيا عسكرياً في سورية، وتنخرط مع إيران وقوى المقاومة في خطة موحّدة لدعم الجيش السوري في مواجهة هذه الحرب، وتدور رحى المواجهة الحاسمة في معركة حلب. وعند هذا المنعطف لم تتردد تركيا في خوض المواجهة مع روسيا وتسقط طائرة حربية روسية، حتى ثبت لها عدم وجود قرار أطلسي بالتصادم مع روسيا، فكانت الخطوة التركية الأولى نحو خلط الأوراق الإقليمية، بالانتقال من موقع رأس الحربة في الحرب على سورية، إلى موقع جديد عنوانه تفاهمات أستانة التي ربطت تركيا مع روسيا وإيران، الذي سلّمت بموجبه تركيا بخسارتها مع حلفائها من الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيم الأخوان المسلمين، في حلب وحمص وحماة ودرعا والغوطة، مقابل احتفاظها بنفوذها وحضورها في إدلب، كقوة فصل ورعاية لتفاهم يقضي بفصل المعارضة السياسية التي دعيت للانضمام الى العملية السياسية عن الجماعات الإرهابية التي يفترض نزع سلاحها وترحيلها، عبر التفاوض أو الحسم العسكري، وهو الأمر الذي لم ينفذ ولم تقُم خلاله تركيا بواجباتها.
خلال السنوات الفاصلة مضت تركيا تحت غطاء موقعها الجديد، الباقي في حلف الأطلسي والمنفتح على روسيا وإيران، فعقدت صفقة شراء صواريخ الأس 400 من روسيا، ولم تلتزم بالعقوبات الأميركية على إيران، واندفعت نحو فرض حضور إقليمي من ليبيا إلى ناغورني كاراباخ، ونجحت بتحقيق موقع متقدّم فيما كانت قوى دولية بحجم فرنسا تتراجع في ليبيا، وكانت قوى إقليمية أخرى كبرى مثل مصر والسعودية والإمارات تعجز عن بلورة هجوم معاكس يصدّ التقدّم التركي، وبدا أن تركيا التي يرى الكثيرون من خلال قراءة خطاب رئيسها رجب أدروغان انها تتسم بالرعونة والتهوّر، قد نجحت بالتفوق التكتيكي على دول مثل فرنسا ومصر والسعودية والإمارات، وتلاعب الدولتين الأعظم في العالم روسيا وأميركا، وتلعب بين خطوطها الحمر، لتحجز موقعاً بين الكبار وتظهر بصفتها بيضة القبان في التوازنات الإقليميّة، وقبلة اهتمام القوتين العظميين، وتنافسهما على اجتذابها.
مع وصول الرئيس جو بايدن وفريقه الى البيت الأبيض، ورسم عناوين سياسته الخارجية، تريثت تركيا وها هي تتحرك مجدداً، والتحرك التركي الجديد يسير على ثلاثة خطوط متوازية، الأول هو خط الدعم للسياسات الأميركية في الخليج وعنوانها محاولة فرض توازن يتيح التفاوض من موقع القوة في اليمن، لوقف الحرب بشروط مناسبة لواشنطن، بعدما بدا أن التوازن قد تمّ كسره لحساب أنصار الله على حساب السعودية، ومن هذا الباب يبدو الإصطفاف التركي مع السعودية والإمارات عبر نقل المسلحين التابعين لتنظيم القاعدة والأخوان المسلمين من سورية وليبيا إلى اليمن. والثاني هو خط التجاوب مع المساعي الروسية لتزخيم فرص الحل السياسي في سورية عبر قبول صيغ تتبناها موسكو للجنة الدستورية تتيح تحقيق مثل هذا التقدم، وكان الاجتماع الروسي القطري التركي إطاراً لبلورة تفاصيلها، وتفتح الباب لعودة سورية الى الجامعة العربية، بتفاهم يشترك فيه الثلاثي المصري السعودي الإماراتي، وتنضمّ إليه قطر. والثالث هو التحرك على خط التقاطع الروسي الأميركي لوقف الحرب في ليبيا، وتسهيل حل يبتعد من خلاله حليفها فايز السراج عن المسرح، وتمسك فيها تركيا فرص الشراكة الأمنية والسياسية في إنجاح حلقات الحل السياسيّ.
النقلة الجديدة لتركيا، التي ستترجم بتسوية تركية مصرية تطوي صفحة نزاع مديد، تشبه النقلة التي سبقتها من بوابة الانفتاح التركي على روسيا وإيران عبر بوابة أستانة، وتفتح الباب لتركيا لتشكل مع مصر ومن خلفها السعودية والإمارات ثنائي الرعاية المستقبلية للملف الليبي، ومقايضة تراجع الأخوان المسلمين من الواجهة المصرية، وربما الليبية مقابل حضورهم في اليمن من بوابة مأرب عسكرياً، تمهيداً لعودتهم إلى الواجهة سياسياً. والمغامرة التركيّة الجديدة، تصطدم هذه المرة بمعادلة يمنية تختلف عن ما شهده الأتراك في ليبيا، والقيادة التركية لا مشكلة لديها بانعطاف ثالث لتلافي المخاطر بعد انتزاع الاعتراف بالدور، نحو أستانة يمنيّة تمهد لحوار خليجي إيراني تكون تركيا شريكاً فيه.
رغم كل أوصاف التهوّر والمغامرة، تقدم السياسة التركية نموذجاً قادراً على المبادرة والمناورة، وتحقق تقدماً باللعب على خطوط التوازنات، وتنجح بخلط الأوراق، والتقدّم كبيضة القبان في اللعبة الإقليميّة، بينما تتراجع مكانة الثلاثي السعودي الإماراتي المصري، وتتأرجح دولة عظمى مثل فرنسا، على حبال الفشل اللبناني بعد الفشل الليبي، ربما بانتظار خطوة تركية جديدة تخلط الأوراق من بوابة أدوار جديدة وتحالفات جديدة.