الأخبار- رضوان مرتضى
أعلنت الدولة اللبنانية الحرب على الصرّافين. اجتمع القضاء والأجهزة الأمنية لملاحقة وتعقّب الصرّافين ومنصّات الصرافة الإلكترونية بتهمة رفع سعر الدولار. السبب المباشر للاستنفار المفاجئ كان بلوغ سعر صرف الدولار الأميركي عشرة آلاف ليرة. أوعز أهل السياسة لأهل القضاء والأمن، عقب اجتماع أمني اقتصادي في بعبدا، لتتحرّك الوحدات الإلكترونية في الأمن العام وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة. استُدعي عدة أشحاص يملكون منصّات لتسعير الدولار ليُطلَب منهم إغلاق المنصّات والتوقيع على تعهّدٍ بعدم تشغيلها مجدداً. غير أنّ المنصّات الرئيسية لم يتم التوصّل إلى تحديد هوية مشغّليها. وخلُصت الأجهزة الأمنية إلى أنّ مشغّلي بعضها يستخدمون برامج تشفير لإخفاء المعلومات والبلد الذي تبثُّ منه. كما تبيّن أن بعضها يعمل من تركيا ومصر وسوريا والولايات المتحدة الأميركية. وقد طلب النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات مساعدة قضائية من السلطات الأميركية تقضي بالعمل على «حجب المواقع الإلكترونية المخصصة لتحديد سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، وذلك لمخالفتها أحكام قانون النقد الوطني والقيام بمضاربات هدفها السيطرة على تحديد سعر صرف الدولار، وزعزعة الثقة بالمالية العامة للدولة اللبنانية، وإفساد قاعدة العرض والطلب عبر الغش». وقد أرفق طلبه بعناوين المواقع.
ترافق ذلك مع حملة أمنية لتوقيف عدد من الصرّافين. كل هذا لم يؤدِّ إلى لجم سعر الدولار، إنما لجم الصرّافين أنفسهم. فقد عمد عشرات الصرّافين إلى مغادرة المجموعات الناشطة على تطبيق «واتسأب» في أعمال الصرافة عرضاً للدولار وطلباً. أما كلمة السرّ فكانت: «أطلب منكم الخروج من كل المجموعات وبسرعة، وذلك بطلب من السلطات المختصة ولكم الشكر». هذه العبارة كانت كفيلة بإقفال عشرات مجموعات الصرافة وتوقف الصرّافين عن العمل، إلا أنّ ذلك لم يثبّت سعر الليرة. مجدداً، في التوقيت نفسه الذي تهاوى فيه السعر قبل أسبوع، أي بعد ظهر يوم الجمعة، بدأ سعر الدولار بالارتفاع. وقد وصل هذه المرة إلى 11800 ليرة في بعض العمليات الصغيرة ليلاً. حتى بهذا السعر، لم يكن الدولار متوفراً. إذ كان جواب الصرّافين بأن لا دولار لديهم للبيع. بقيت أسباب ارتفاع السعر في أيام العطل لغزاً لم يُفكّ بعد. إذ إنّ الأسواق مغلقة والمصارف مقفلة والحدود مع سوريا ليست مفتوحة. كما أن التبرير الذي سيق الأسبوع الماضي حيث ربط ارتفاع الدولار بطلب المصارف عليه لتأمين نسبة ٣٪ المطلوبة لرسملة المصارف لم يعد موجوداً هذا الأسبوع. فلماذا يرتفع الدولار في هذا التوقيت بالتحديد؟
يقول أحد الصرّافين لـ«الأخبار» إنّ «الدولار بلا سقف»، مبرّراً ارتفاع سعر الصرف بأنّ «الصرّافين يرفضون البيع خوفاً من الملاحقة». صرّافٌ آخر رأى أنّ الارتفاع مردّه أنّ «الطلب على الدولار تركّز في يومين فقط، جرّاء توقيف عدد من الصرّافين في الأيام السابقة، ما حال دون تأمين الدولار للعديد من الشركات»، مشيراً إلى أنّه «خلال اليومين الماضيين عاود الصرّافون العمل وعادت المجموعات إلى النشاط مجدداً»، واعتبر أنّ «توقيف الصرّافين تسبّب بردّة فعل عكسية». ويقول هذا الصرّاف إنّ تسعيرة الدولار تضعها مجموعات الواتساب تبعاً للعرض والطلب، لكون الدولار بات سلعة تكاد تكون مفقودة في السوق. وبالتالي، فإنّ المنصّات لا تضع السعر، إنما تتبع تسعير المجموعات. ويرى الصرّافون أنّ ارتفاع الدولار أو انخفاضه لا يعنيهم، لكونهم (يشترون «ممن هم تحت» ليبيعوا إلى «من هم فوق»)، مشيراً إلى وجود ربح ثابت للصرّاف مهما تأرجح الدولار.
في المقابل، يتحدث أحد مالكي المصارف لـ«الأخبار» عن «لُعبة يقف وراءها الصرّافون للإيحاء بأنّ الحملة التي شُنّت عليهم خاطئة»، معتبراً أنّ «عدم بيع الدولار من شأنه أن يتسبب بطيران الدولار». يعزز ذلك غياب أي أمل يلوح في الأفق. لا جديد في ملف تأليف الحكومة حيث تتعقّد الأزمة سياسياً، بينما يخرج وزير الداخلية محمد فهمي في مقابلة تلفزيونية ليُعلن أنّ «الأمن قد تلاشى… يعطيكن العافية». وكل ذلك يحصل على وقع الحديث عن تفلّت أمني وفوضى أهلية وجوع. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ أحد المتابعين لملفات التحقيق يرى أنّ الحملة التي تُشنّ على الصرّافين قد تقضي على السوق السوداء الموجودة، لكنها حتماً ستخلق سوقاً بديلة ستكون أكثر صعوبة لبيع الدولار وشرائه. وذلك من شأنه أن يتسبّب بندرة الدولار أكثر ويُصعّب الوصول إليه. وبالتالي، فإنّ ذلك سيؤدي إلى ارتفاع جنوني للدولار على اعتبار أنّ الاقتصاد مدولر ولا يمكن لأيّ مستورد أن يُكمل عمله من دون الحصول على الدولار.
وسط الأخذ والردّ، يُستذكر دور القضاء الذي يتحرّك وفقاً لإيقاع الشارع وضغط الإعلام. حتى إنّه يتّخذ قرارات يعلم مسبقاً أنّها لن تؤدي إلى شيء، لكنه يرى أنّه مضطرٌ إلى اتخاذها للإيحاء للرأي العام بأنّه حاضرُ ليقوم بواجبه. وهنا يحضر دور المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم. جميع الملفات التي فتحها لم تؤدِّ إلى أي نتيجة، بل على العكس. بدأت الحكاية مع استدعاء رؤساء مجالس إدارة عدد من المصارف. استبشر اللبنانيون خيراً، لكنّ شيئاً لم يحصل. استُكملت المسرحية بملف تهريب الدولارات إلى الخارج. أوقف مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان مازن حمدان الذي اتُّهم بالتلاعب بالعملة جراء عمليات بيع وشراء الدولار مع الصرّافين. كما أوقف مدير الخزانة في مصرف سوسيتيه جنرال كريم الخوري بتُهمة شراء الدولار لشحنه إلى الخارج، إلا أنّ قاضي التحقيق شربل أبو سمرا أصدر قراره بمنع المحاكمة عنهما. وبصرف النظر عن تورطهما من عدمه، كان لافتاً أنّ شقيقة القاضي أبو سمرا، الذي أصدر القرار، تعمل مديرة في مصرف سوسيتيه جنرال المتهم بشحن الدولارات إلى الخارج. كما أنّ رئيس مجلس إدارة المصرف أنطون صحناوي هو الداعم الرئيسي لصهر القاضي، العميد جان طالوزيان الذي فاز بالانتخابات النيابية عام ٢٠١٨ عن أحد مقاعد الأشرفية. ورغم ذلك، لم يستشعر القاضي الحرج، وأصدر قراراً بمنع المحاكمة. غير أنّ جديد القضية أنّ النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون استدعت مدير العمليات النقدية في المصرف المركزي مازن حمدان للاستماع إلى إفادته مجدداً بعد غد الاثنين، لكن بصفة شاهد. وعلمت «الأخبار» أنّ الاستدعاء مرتبط بالتحقيق في عمليات تبييض أموال. المسرحية الثالثة تمثّلت بالتحقيق مع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، إذ إن القاضي إبراهيم يتولى التحقيق بجرم التلاعب بالعملة الوطنية ورفع سعر صرف الدولار، فيما يشغل منصب عضو هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يرد اسمه في التحقيقات، على أنه أعطى الأوامر لمدير العمليات النقدية في المصرف المركزي، لشراء الدولار وبيعه للصرّافين؟ أما المسرحية الرابعة، فهي الدائرة حالياً، لجهة فتح ملف الصرّافين.
مشكلة سعر صرف الدولار مركّبة، ولا يمكن حلّها بقرار أمني. سبق لدول عديدة (إيران وتركيا، مثلاً) أن حاولت لجم انهيار عملتها بالأمن والقضاء، لكن ذلك لم يُجدِ نفعاً. فما يراه خبراء اقتصاديون ومصرفيون وعاملون في سوق الصرافة، أن القرار، بالدرجة الأولى، سياسيّ بمعنيَين: الأول أن ترك سعر الصرف حراً في السوق السوداء هو نتيجة لسياسة رسمية أعلنها المسؤول الأول عن «سلامة النقد الوطني»، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي حدّد أسعاراً متعددة للدولار، وترك السوق السوداء لما يسمّيه العرض والطلب. أما المعنى الثاني، فمربتط بالخلافات السياسية التي تحول دون تأليف حكومة، ودون وضع خطة واضحة للخروج من حالة الانهيار الشامل التي تخيّم على لبنان منذ صيف عام 2019. ومن دون قرار على المستوى السياسي، سيبقى سعر الدولار بلا سقف!