الركائز الاربعة للدولة المسيحية العميقة التي خسرها عون

“ليبانون ديبايت” – بولس عيسى

ما آلت إليه أوضاع “التيار الوطني الحر” من تراجع فادح على الصعيد الشعبي مسألة تستحق الفهم ودراسة أسبابها بعمق. وفي هذا الإطار، أكدت أوساط سياسيّة عليمة واكبت السياسة بتقلّباتها منذ سبعينيات القرن الماضي، أن الدولة المسيحية العميقة ترتكز على أربعة أعمدة أساسية: العمود الأول هو الكنيسة، والثاني هو المؤسسة العسكرية، والثالث هو الأحزاب الكبيرة التي تجسّد ثوابت هذه البيئة وتمثّل وجدانها. أما العمود الرابع فهو الرأي العام المسيحي المدني المتحرّر والفاعل وصاحب المبادرة الفردية، لافتةً إلى أن البعض قد يبدأ بترداد مطوّلاته الإتهامية المليئة بتعابير كالإنعزالية والطائفية إزاء هذا الكلام، لكن ما نقوله ونقاربه هو من وجهة نظر سياسية فكرية عميقة، وهو واقع لا يمكن الهروب منه بالشعبوية.

وشدّدت الأوساط، أن انطلاقة “التيار الوطني الحر” كان سببها نجاحه في استقطاب عمودين أساسيين من هذه الأعمدة الأربعة: العمود الرابع، أي الرأي العام المسيحي، والعمود الثاني، أي المؤسسة العسكرية. ولفتت إلى أن نجاح “التيار” باستقطاب الرأي العام المسيحي، مردّه إلى أن الأخير خرج من الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي بحالة يأس وقرف وتعب، فاستغلّ “التيار” هذا العامل والعنصر في محاولة لاستقطاب الناس، مستعملاً شعارات كبيرة، ترتبط بدولة حرّة سيدة مستقلّة، الأمر الذي كان الناس تواقين إليه، إلاّ أنه عاد ونقض كل هذه الشعارات منذ توقيعه “ورقة التفاهم” مع “حزب الله” في العام 2006.

وأوضحت الأوساط وجوب عدم إغفال أن “التيار” نجح باستقطاب العمود الرابع، أي الرأي العام المسيحي، متكئاً على العمود الثاني، وهو المؤسسة العسكرية، التي شكّلت تاريخياً لدى الوجدان المسيحي، ضمانة لسيادة واستقلال لبنان، وهي بالنسبة لهذا الوجدان العمود الفقري للبنان الكيان، وبالتالي، ارتكز “التيار” على هذين العمودين لينطلق ويأخذ له مكاناً على المسرح السياسي المسيحي، وبالتالي الوطني، وتناقض مع الكنيسة وحزب “القوات اللبنانية” الذي يشكّل بطبيعة الحال العمق المسيحي في وجدانه وتطلّعاته، ويجسّد المشروع السياسي للقضية اللبنانية، أي أنه ركيزة كما الجزء الأكبر والساحق من العمود الثالث، أي الأحزاب الكبيرة التي تجسّد ثوابت هذه البيئة وتمثل وجدانها.

ومع وصول “التيار الوطني” إلى رئاسة الجمهورية، ولاعتبارات معلومة بشكل أو بآخر، نجح بتقريب الكنيسة منه، بحيث أصبحت بكركي مدافعة عن رئيس الجمهورية، بحسب الأوساط نفسها، بعدما كان قد مرّ بالعمود الثالث قبل وصوله إلى السدّة الرئاسية على أثر ترشيحه من معراب، لاعتبارات المرحلة السياسية في حينه، والتي تم الحديث عنها مراراً وتكراراً، واليوم ليس الوقت للعودة لتكرارها. وبالتالي، أصبحت الأعمدة الأربعة، أي ركائز البيئة المسيحية، داعمة له حيث وصل العماد ميشال عون إلى الرئاسة كأول رئيس جمهورية ما بعد “الطائف”، يدعمه الرأي العام المسيحي، وهو آت من حزب له تمثيل واسع، يتكئ على المؤسسة العسكرية الخارج منها، مدعوم من “القوّات” التي تجسّد ثوابت هذه البيئة التاريخية، وتمثل وجدانها ولها عقيدة واضحة وتمثيل شعبي واسع أيضاً، كما يستند على الكنيسة الداعمة له.

واعتبرت الأوساط، أن ما حصل بعد تولي الرئيس عون السدّة الرئاسية، لا ينطبق عليه مثل “جازة جوزّتك حظ من وين بجبلك” ، باعتبار أنها ليست مسألة حظ أبداً، وإنما أمر من اثنين: إمّا نشوة بفائض القوة مستمدّة من الكرسي وضعت العهد في منزلة بعيدة عن واقع الحال، وبالتالي كانت سبباً في كل ما شهدناه من خيارات، أو أنها سوء فهم وقراءة للواقع السياسي، أدت الى ارتكاب كل ما ارتُكب من أخطاء استراتيجية. فمنذ اللحظة الأولى تناقض مع “القوات اللبنانية”، أي خسر العمود الثالث، لأنه يخشى من أن من سيخلفه سيكون الأكثر تمثيلاً والأكثر نضالاً والأكثر أحقيّة، أي سمير جعجع، وبالتالي، وقطعاً للطريق على هذا الأمر، ذهب مباشرة للإنقلاب على “اتفاق معراب” من أجل محاولة تطويق “القوات”، الأمر الذي بنظره، سيفتح المجال آمام رئيس “التيار” النائب جبران باسيل إلى قصر بعبدا كخلف له.

وأشارت الأوساط، إلى أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، وإنما بعد خسارة “التيار” للعمود الثالث، استكمل مساره الإنحداري بأداء سياسي، رأى من خلاله الرأي العام جوهر وحقيقة هذا الفريق، فهذا الشعب كان قد سمع على مدى سنوات وعوداً من هذا الفريق بال”مَنّ والسلوى” ومحاضرات في بناء الدولة، إلا أنه في اللحظة التي بدأ فيها الإمتحان بعد وصوله إلى السدّة الأولى وسيطرته على أكثرية السلطات في البلاد، من كتلة نيابيّة كبيرة وثلث معطّل في الحكومة، والإطباق على جميع التعيينات، من الحاجب وصولاً إلى المدير العام، ومن اللحظة الأولى للإمتحان لم يكرّم هذا الفريق، وإنما أُهين بعد قيادته الدولة إلى الفشل والإنهيار، الأمر الذي خسّره العمود الرابع وهو الرأي العام المسيحي العريض، وخصوصاً المدني المتحرّر، الذي ارتكز عليه منذ لحظة نشوئه، والذي لم يعد “التيار” بالنسبة إليه هو المنقذ، وإنما الطرف السياسي الفاسد الذي أوصله إلى الكارثة والإنهيار والفشل.

ورأت الأوساط، أن “التيار” خسر من الناحية الثالثة بكركي، فبعدما كان غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي مدافعاً عن الرئيس، أوصله “التيار” إلى حدّ المطالبة باللجوء إلى المرجعية الدولية بعدما جرّب المرجعية المحلية اللبنانية المتمثّلة برئيس الجمهورية، ولمس لمس اليد، عدم قدرتها وفشلها في معالجة الأزمة، الأمر الذي خلّف عتباً كبيراً عند الرئاسة، التي اعتبرت أن مثل هذه الدعوة التي أطلقها البطريرك تشكّل تجاوزاً لمرجعية الرئيس.

وأخيراً وليس آخراً، بحسب الأوساط، خسر “التيار” العمود الثاني، وهو المؤسسة العسكرية، والتي أثبت قائدها العماد جوزيف عون، أنه يعمل بمهنيّة، وأولويته حماية لبنان والمؤسّسة، ولا يفكّر إطلاقاً بموضوع الرئاسة، إلا أن باسيل لم يَرُق له هذا الأمر أبداً، ويريده أن يكون جزءاً من مشروعه، وأداة قمع في يده ، يوجّهها ضد الرأي العام ساعة يشاء خلافاً لتوجّهات المؤسسة ،الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى ابتعاد اليرزة عن بعبدا.

وختمت الأوساط، أنه في المحصّلة، تمكّن عون بجدارة، وخلال أربعة سنوات فقط من الممارسة في السدّة الأولى، من خسارة ركيزتين للبيئة المسيحية ،شكّلتا دعامة لانطلاقة عهده، بالإضافة إلى الركيزتين الأخريين اللتين شكلتا قاعدة انطلاقه لينتهي به الأمر اليوم، معزولاً داخل البيئة المسيحية في الداخل، بالإضافة إلى عزلته الخارجية على الصعيدين العربي والدولي.

Exit mobile version