لم تفلح المعالجات البوليسية لانهيار سعر صرف العملات المحلية مقابل الدولار الاميركي في أي دولة تعاني أزمة مالية نقدية واقتصادية، إلا ان الدولة اللبنانية ما زالت مصرّة على ذلك، رغم انها قامت بهذه التجربة قبل عام على التحديد عندما بلغ الدولار في السوق السوداء 2500 ليرة، ما حتّم على الحكومة توقيف الصرافين وإقفال محالهم. والنتيجة كانت ان الليرة انهارت أكثر ووصلت اليوم الى حدود 11 الف ليرة مقابل الدولار.
تعتبر المعالجة البوليسية التي تمّ اعتمادها في مصر وسوريا مثالاً على عدم وجود أي جدوى منها، حيث انّ سياسة قمع السوق السوداء المتّبعة في سوريا عبر السنين لم تؤد سوى الى انهيار الليرة السورية من 50 الى 4000 ليرة مقابل الدولار.
فهل انّ تكرار تجربة قمع الصرافين واقفال المنصات الالكترونية سيساهم او يلجم انهيار الليرة في لبنان بشكل اكبر؟
وكيف سيتم تحديد سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء في غياب المنصات التي شكّلت مرجعاً لمن يرغب بشراء او بيع الدولارات؟
بعد الاجتماع المالي والأمني الذي انعقد في بعبدا يوم الاثنين، بدأ تنفيذ المقررات التي خلص اليها الاجتماع وأوقفت القوى الأمنية عددا من صرّافي السوق السوداء في عدد من المناطق واقتادتهم الى التحقيق، كما قامت «أوجيرو» بحجب المواقع الإلكترونية والتطبيقات والصفحات على مواقع التواصل الإجتماعي والمعنية بتحديد سعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملة الوطنية في السوق السوداء. واقترحت على الجهات القضائية مراسلة شركتي Google وFacebook للطلب منهما حذف هذه التطبيقات والصفحات لمخالفتها القوانين والقرارات القضائية، بما انه تعذّر على «أوجيرو» القيام بذلك.
كنتيجة اولية لسياسة القمع التي قررت الدولة اتّباعها، قرر الصرافون الشرعيون الخروج من السوق، حيث قرر عدد كبير منهم اقفال مؤسساته امس، بسبب الاسلوب البوليسي الذي يتم التعامل به معهم، والضغط الذي تمارسه القوى الامنية على «كلّ شخص يدخل ويخرج من محلات الصيرفة، واستجوابهم حول سعر الصرف الذي باعوا او اشتروا على أساسه الدولار»، وفقاً لأحد الصرافين الذي قال انه يفضّل التوقف عن العمل واقفال المؤسسة «لأنه يتمّ التعامل معنا وكأننا مجرمون او نقوم بعمل غير شرعي».
وبالتالي، فإنّ السوق السوداء سيتحكم بها حالياً بشكل اكبر واسهل، الصرافون غير الشرعيين وكلّ من «يسعى للتلاعب بسعر صرف الدولار ودفع البلاد نحو الانفجار»، على حدّ تعبير رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المستقيل حسان دياب خلال اجتماع بعبدا. وبعد حجب المنصات الالكترونية التي كانت شبه مرجع للتجار والصرافين، سيكون تحديد سعر الصرف اليومي من مهام هؤلاء أنفسهم الذين تتهمهم السلطة بالمؤامرة وبتسريع انهيار الليرة.
في هذا الاطار، اعتبر الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود انه من المؤسف ان تلجأ الدولة الى هذه الاساليب من المعالجة للأزمة»، مؤكداً لـ«الجمهورية» انّ العلاج ليس بوليسياً او قضائياً بل هو في مكان آخر، «ألم نلاحظ كيف كان الحال في مصر وسوريا عندما كان العلاج أمنياً بدلاً من أن يكون نقدياً ومالياً واقتصادياً؟».
ورأى انّ اجتماع بعبدا تشوبه عيوب كبيرة، معتبراً أنه من المعيب تكليف الجهات الأمنية ملاحقة من يخالف قانون النقد والتسليف بل انها مهام السلطة النقدية التي تنظّم مهنة الصرافة، مشيراً الى ان من هو غير مرخّص لا علاقة له بقانون النقد والتسليف وهو من مسؤولية البلديات ووزارة الداخلية. كما لفت حمود الى نقطة غير دستورية اخرى وردت في مقررات اجتماع بعبدا، وهي تكليف الجهات الأمنية بملاحقة كل من يستخدم الدولار لأغراض غير قطاعية صناعية وتجارية وصحية. وسأل: وفق اي قانون ودستور يتم اتخاذ هذا التدبير؟
وحول غياب اي مرجعية لتحديد سعر صرف الدولار بعد اقفال المنصات، قال حمود: هناك دكاكين صيرفة في كلّ مكان، ولا حاجة لمنصات تكون مرجعاً لسعر الصرف او تحدد سعر الصرف بل انّ الاستيراد وحاجة التجار للدولار حاجة المواطنين للتخزين، هي التي تحدد سعر الصرف في السوق السوداء، مشيراً في هذا السياق الى انه لا يمكن حجب كافة المواقع المعنية بتحديد سعر الصرف لأنّ الامر يتطلب اللجوء الى القضاء الاميركي.
وختم مؤكداً انّ هذه الاجراءات كافة لن تلجم انهيار الليرة ولن تساهم في ارتفاع سعرها مجدداً مقابل الدولار، موضحاً انّ الانهيار الذي شهدته الليرة في الفترة الاخيرة مَردّه التقنين في بيع الدولارات المخزّنة بسبب تردّي الاوضاع في البلاد، وتوجّه المواطنين نحو المزيد من التخزين تخوّفاً من مزيد من التدهور على الصعيد السياسي والاقتصادي في الفترة المقبلة.