لا يمكن للساعين على خط تشكيل الحكومة العتيدة تجاهل مضمون البيان الصادر عن الخارجية الروسية، بعد اللقاء في ابو ظبي بين الرئيس المكلّف تأليف الحكومة، وبين وزير الخارجية سيرغي لافروف، خصوصاً انّه استخدم عبارات من المبادرة الفرنسية، عند توصيفه الحكومة المطلوبة. وعليه، ما الذي حمله البيان؟ وهل تبنّت موسكو جزءاً من هذه المبادرة؟ ولمن يمكن ان تكون قد انتصرت؟
إختصر اللقاء بين الحريري ولافروف المسافة بين موسكو وبيروت، وأسقط من جدول مواعيد الحريري الخارجية، المحطة الروسية التي كانت بين مجموعة العواصم الغربية والعربية التي ينوي زيارتها في الوقت الضائع، الفاصل بين تكليفه تشكيل الحكومة ومرحلة التأليف وما بعدها، وخصوصاً انّ اي خيار يؤدي الى سحب التكليف ليس وارداً بالمفهوم الدستوري، نتيجة ما تولّد من إقتناع راسخ لدى اكثرية الاطراف المتمسكين بهذا التكليف، أو اولئك الذين لم يرغبوا به ويريدون انهاء مفاعيله. فمثل هذا الاقتراح لا تفسير له سوى انّه تجاوز لنتائج الاستشارات النيابية الملزمة التي جاءت به، ليعود الى السرايا الحكومية الكبيرة في اي وقت، رغماً عن رغبة رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، وكل من امتنع عن تسميته باستثناء «حزب الله».
من المفترض ـ حسب معلومات المطلعين على حركة الاتصالات والمبادرات الجارية ـ ان يُطوى موضوع سحب التكليف، للدخول في مرحلة اخرى فرضتها نتائج المساعي الجارية لبلوغ مرحلة التأليف. والجديد انّ موسكو باتت طرفاً اساسياً موجوداً على خط المعالجات، بعدما استقطبت في الايام القليلة الماضية جزءاً منها. فليس سراً انّ عدداً من المسؤولين الروس كانوا على الخط، قبل دخول لافروف امس الاول. فمبعوث الرئيس الروسي الى الشرق الأوسط وشمال افريقيا ونائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط ميخائيل بوغدانوف، سبق له ان اجرى وتلقّى عدداً من الاتصالات من القيادات اللبنانية المختلفة، كما التقى موفدين آخرين، والتي اثمرت على ما يبدو، بالإضافة الى ما استُجد من مواقف، زيارة يقوم بها وفد من «حزب الله» الى العاصمة الروسية في وقت قريب، بعدما عاد منها مستشار الرئيس ميشال عون للشؤون الروسية النائب السابق أمل ابو زيد.
على هذه الخلفيات، نال «لقاء ابوظبي» بين لافروف والحريري ما يستأهله من اهتمام، وفاض عنه ما جاء في البيان الذي اصدرته وزارة الخارجية عقب اللقاء. فأعطاه بعده الرسمي وكأنّه عُقد في موسكو لا في عاصمة خليجية. وزاد من اهميته مضمون البيان الصادرعن اللقاء، فألقى اضواء عدة على نتائجه ومفهوم موسكو للحل بطريقة اوضح من قبل، فحمل مزيداً من الرسائل التي وضعت العاصمة الروسية على خط بعض المقترحات الواردة في المبادرة الفرنسية، بناء على المعطيات الآتية:
– ليس تفصيلاً ان يتناول البيان، انّ الحريري حضر اللقاء مع رئيس الديبلوماسية الروسية بصفته «رئيساً مكلّفاً تشكيل الحكومة»، وقد جاء الى اللقاء بصفة حملتها «الاستشارات النيابية للكتل البرلمانية في البرلمان اللبناني قبل ان يتمّ تكليفه من الرئيس ميشال عون لتشكيل الحكومة الجديدة». فمثل هذا التوصيف أنهى محاولات عدة لإنكار هذه النتائج والسعي الى تغيير ما انتهت اليه من «إلزامية» لا نقاش فيها، طالما انّ حامل هذه الصفة لم يتخلّ عنها.
– وليس تفصيلاً ان يركّز البيان على «أهمية الإسراع في اجتياز الأزمة الاجتماعية والاقتصادية» التي يعانيها لبنان، الى جانب الهمّ الحكومي. ففي ذلك اعتراف بحجم المعضلة الاجتماعية والنقدية التي يعانيها لبنان، والتي تزيد في خطورتها على بقية المعضلات التي يعانيها البلد، من جائحة «كورونا» وما اضافت اليه نكبة مرفأ بيروت وتداعياتها الكارثية على اللبنانيين، وما شهدته اسواق المال من تراجع لقيمة العملة الوطنية حتى انهيارها.
– وليس تفصيلاً ايضاً إشارة البيان الى انّ طريق الخروج من الأزمة تقع على مسؤولية «حكومة مهمّة قادرة» من «التكنوقراط» اي الإختصاصيين من غير الحزبيين. وهو التوصيف المستعار من «المبادرة الفرنسية» منذ لحظة اطلاقها في الثاني من ايلول الماضي، ولم يلتزم بها احد من اركان السلطة على مختلف المستويات. فعلى وقع البيانات وما حملته من إشادة وتأييد للمبادرة «الماكرونية» أوغلوا في الفترة الاولى في تفسير معنى صفة «المهمّة» التي لم يعتد عليها اللبنانيون. واعطوها اوصافاً خرجت عن معناها الحقيقي باللغة «الفرنسية الاصلية». لا بل فقد تناقضت بعض التفسيرات مع ما تحمله من معانٍ. واكثرها دقّة، انّها «حكومة تتولّى ادارة شؤون البلاد وفق مهمة محدّدة في شكلها ومضمونها». وهي التي قالت ايضاً بضرورة ان تكون «حكومة جديدة» من خارج كل أطر وأشكال الحكومات اللبنانية السابقة التي طغت عليها صفات «حكومة كل الناس» او «حكومة الوحدة الوطنية»، والتي لم تعط النتائج المرجوة من عناوينها، فانتهت مهماتها بالفشل الذريع، بدليل يترجمه ما انتهت اليه البلاد من أزمات متداخلة ومتناسلة، اوصلت اللبنانيين الى ما هم عليه من الفقر والعوز وعدم الاستقرار وفقدان ابسط مقومات العيش.
على هذه الخلفيات يمكن النظر بكل واقعية الى ما انتهى اليه «لقاء ابوظبي»، وان لم يمكن في قدرة احد حتى الآن توقّع ما يمكن ان يؤدي اليه هذا اللقاء، فقد كان واضحاً انّه جاء ليعطي زخماً لجزء من المبادرة الفرنسية، التي تحدثت عن شكل الحكومة بمعزل عمّن يكون رئيسها وهوية وزرائها. وهو ما رفع من عدد المؤيّدين الدوليين لهذه المبادرة، في انتظار ان يكمل اللبنانيون مهمّة توليد الحكومة وملاقاة الجهد الدولي المبذول لمساعدتهم في تجاوز «الأزمة – المحنة».
وختاماً، فإنّ كل ما سبق الإشارة اليه يُظهر في وضوح انّ موسكو ظهرت أنّها الاقرب الى وجهة نظر الفريق الذي يعترض على اداء اركان السلطة وطريقة تعاطيهم مع الحريري، وهو ما سيزيد من حجم المصاعب المؤدية الى توليد الحكومة في وقت قريب. فالمعترضون على مهمة الحريري وطريقة تعاطيه مع التشكيلة الحكومية، لم يتراجعوا بعد عن مواقفهم رغم المطالبة بتغيير إدائهم. وان كان البعض يلقي اللوم على «حزب الله»، نتيجة استمراره في الإمساك بالعصا من وسطها بين «بيت الوسط» وبعبدا، ضماناً لتوازن سلبي ما زال قائماً الى اليوم. ولذلك يصح السؤال: هل انّ على المعنيين انتظار زيارة وفد الحزب الى موسكو، لتبيان النتائج النهائية من إمكان تعديل موقفه، بالانتقال من ضفة الى اخرى، لحسم الجدل القائم حول الحكومة في شكلها ومضمونها؟
والى تلك اللحظة يُطرح سؤال وجيه، هل يصمد البلد الى تلك المرحلة؟ وما هو المُنتظر من تطورات مأسوية تزيد عمّا هو قائم اليوم؟ وقبل ان يجيب احد عن هذا السؤال، فإنّه يحمل في طياته جواباً واضحاً، يتحدث عن مزيد من المخاطر التي تنتظر لبنان واللبنانيين.. فليستعدوا لها؟