شادي علاء الدين -أساس ميديا
تستيقظ في الصّباح الباكر وتتوجّه إلى آلة صنع القهوة راغبًا في الحصول على فنجان قهوة يمنحك جرعة الكافيين اللّازمة، لتباشر مزاولة أعمالِك. تجدها معطّلة فماذا تفعل؟ غالبًا ما تلكمها وتعمد إلى شتمها ولعنها.
تتكرّر ردّة الفعل نفسها حين تحاول الذّهاب إلى العمل وتخونك سيارتك. شكل التعبير نفسه يُعاد في كل مرة نجد أنفسنا في مواجهة شيء، أو علاقة أو سيستم قد توقّف عن العمل، وعن ممارسة دوره، سواء أكان آلةً أو علاقةً أو سلطة.
لا يعني ذلك أنه لا وجود لطبقات مختلفة ودرجات متفاوتة في فعل الشّتيمة ومعناها وطبيعتها، إذ إنّ درجة الخطورة الّتي تمثّلها تختلف باختلاف الموقع.
أن تشتم آلة أو صديقًا أو علاقةً أو حالةً معيّنة يختلف تمامًا عن مواجهة السّلطات بالشّتيمة.
لا تستطيع الآلة أن تردّ عليك وأن تواجهك، ولذلك فإنّ الشّتيمة التي توجهها إليها، تنطلق من موقع حيازتك لسلطة الملكيّة، وتبدو بذلك تعبيرًا عنه واحتجاجًا عن انقطاع في انتظامه، وفي الفائدة المرجوّة منه.
كذلك فإنّ العلاقة مع الصديق والحبيب محكومة بنظام تكافؤ وتناسب، حيث يمكن للأمور أن تنحصر في إطار التّبادل المتوازن، ويمكن لأيّ طرف أن يحتفظ بموقعه وكيانه، ولا يجد نفسه معرّضًا لخطر الإفناء.
حدودها في هذا الموقع تُرسم بوصفها حوارًا يتخذ درجة عالية من الحدّة، لكنّ احتفاظه بسِمَة التّبادل والقدرة عليه، يبقيه في حدود التواصل.
لكن أمام النمو الواسع لسلطة التيارات القمعيّة الشّمولية كما هو الحال في لبنان، يمتنع التعبير والتواصل بشكل عام، وتبدأ موجات الانحلال بالنّمو والتوسّع لتطال كلّ شيء.
في هذه الحالة تقدّم السّلطة نفسها عبر بثّ الوهن والوقاحة والتّردي في كل ما يتّصل بالشّأن العام، وتحرص على تقديم كل هذه الفاكهة المسمومة بوصفها خطابًا عاقلًا، حكيمًا ومنطقيًّا، وتحاول شرعنته ودعمه بقوّة التّكرار.
في الآن نفسه، يتمّ التّعامل مع كلّ تعبير رافض، على أنّه خروج على الانتظام العام وعلى خطابه، ما يجعل القمع ممارسةً قانونيّة ومشروعة، تصبّ في خدمة الصالح العام.
إزاء سيادة هذا الواقع يحلّ العطب في كل شيء، ولا يعود التّعبير ممكنًا إلا بالشّتيمة، لأنها القوّة الوحيدة التي تسمح للناس بانتزاع زمام المبادرة. لكنّ التّعامل مع هذا الموضوع لا يشبه التّعامل مع آلة قهوة توقفت عن العمل، بل يفرض بعدًا آخر.
الآلة الّتي تعطّلت في هذه الحالة، هي آلة الإدارة والنّظام الموكلة بتسيير كلّ شؤون الحياة. تاليًا لا مجال لمواجهة هذا الخلل الجوهريّ إلا بخطاب راديكاليّ جازم، هو شّتيمة تتحرّك في ميدان علنيّ وعام، ولا تقدّم نفسها كمجرد “فشة خلق” أو سياق مطلبيّ محدّد، بل تنطلق من فكرة القطيعة واستحالة التّفاهم مع مثل هذا النّوع من السّلطات.
تسود حاليًّا الشّتيمة في مخاطبة السلطات، وفي التّعبير عن الأحوال التي يعانيها عموم اللّبنانيّين بسببها، وهي طريقة تخاطب السّلطة بوصفها كلًّا جامعًا لا مجال فيه للتّمايزات والاختلافات.
يرفض اللّبنانيون فكرة وجود تيار سلطويّ غير مشارك في إنتاج سياسات الإفقار والإهلاك، الّتي أوصلت الأمور إلى درجة قصوى من الإغلاق، وجعلت الإصلاح مستحيلًا في ظلّ بقائها.
كليّة السلطة استوجبت نشوء خطاب رفض موازٍ لطبيعتها، وقادرعلى الدّفاع عن فكرة ضرورة القطيعة معها، واليأس التام من تعديلها وإصلاحها.
الشّتيمة القصوى الخارجة على كل الحدود، هي التّعبير العفويّ العام والمشترك والعابر للحدود والخصوصيّات، والذي يمثّل، في لحظة الانفجار القصوى الّتي تعيشها البلاد، روحها العامّة الصّادقة والمباشرة، والّتي لا يمكن تزييفها أو اختراعها أو اختراقها.
قالت الشّتيمة الّتي يصرّ اللّبنانيون على تطويبها كخطاب رسمي في التّعامل مع سلطات القمع والتّجويع، إنّ الحدود كلّها سقطت، وإنّه لم يعد هناك من مجال للتّصحيح، بل لا بدّ من إعادة البناء بشكل كامل، ما يعني أنّ كلّ الكيان السّلطويّ القائم حاليًّا صار خارج الشّرعيّة وفاقدًا للاحترام والمكانة.
لا يمكن قياس شتم السلطات بمفاهيم السلوك العادي، وإحالته إلى مفاهيم التّهذيب والأخلاق، لأنّه حقّ شرعيّ توافق عليه المنظومات الشرعية والقانونية في العالم، حين يصدر عن فئة تواجه سلطات مسلحة وقامعة وعنيفة، لا بل تنظر إليه الكثير من الأعراف الدوليّة بوصفه عاديًّا وطبيعيًّا.
لا يعني انتشار الشّتيمة في المجال العام اللّبنانيّ نوعًا من فساد أخلاقي ضرب الناس وأصاب القِيم، بل هو تعبير عن احتجاج راديكاليّ ضدّ عنف إباديّ لم يقف عند أيّ حدود، وطال الكرامات والأعراض وكلّ سبل العيش.
أمام حكم الإعدام جاءت الشّتيمة كمخرج تعبيريّ، وعلى الرغم من حدّتها وطابع القطيعة الّتي تبثّه، إلا أنها لا تزال محاصرة بحدود التّعبير وحسب.
الشّتيمة حتى هذه اللّحظة تقول ما يرغب فيه اللّبنانيون وما يسعون إلى امتلاك القدرة على تحقيقة، وهو اقتلاع كلّ الطّبقة الحاكمة. لكنّها مرحلة متقدّمة من مراحل الصّراع وليست مرحلته النّهائيّة، بل المرحلة الّتي تسبقه بخطوة واحدة.
إنها التّحذير الأخير الذي يسبق الرّكون إلى جنون تام لا يمكن التحكم فيه. وما بعدها، أي حين يتهذّب اللّبنانيون ويكفّون عن إطلاق الشّتائم، فإنّ التّخاطب مع السلطة الّتي لم تتورّع عن إماتَتهم، سيكون عبر تعليق المشانق فعليًّا وليس مجازيًّا.
لذا قد تكون الشتائم هي لحظة الرّحمة الأخيرة، ويجدر بأهل السّلطة الاستفادة منها والرّحيل قبل فوات الأوان.