منذُ لحظة تكليفه، لم «يعوّف» الرئيس المُكلف جهة إلا ورَاهن على وساطتها لدخول الرياض. مشكلته مع السعوديين تكمُن في غموضهم. لا وضعوه على السكّة الحكومية التي يُريدونها، ولا صدّوه عن بابهم بشكل فجّ. لكن أغلب من حاول استطلاع موقفهم، لمسَ لديهم ثباتاً على موقفهم منذ التسوية الرئاسية مع ميشال عون. بمعنى أوضح، تقول الرياض إن الأزمة في لبنان هي «حزب الله»، وإن تفرّعت عنها أزمات تتعلق بالوضع الاقتصادي والمالي للبلاد. السؤال يبدأ من هنا: ماذا استطاع الحريري أن يفعلَ في هذا الشأن؟ لا شيء، يجيب السعوديون. والسؤال نفسه ينتهي هنا: «لماذا على المملكة أن تعُيد وصالها معه»؟
مع ذلِك، لا يتوقف المقربون من الحريري عن تعميم أجواء تشي بانفراجة قريبة على هذا الصعيد، وأن طيّ صفحة الخلافات السياسية والمالية مع المملكة يفترض أن يكون قد أنجز بفضل «أصدقاء إقليميين ودوليين». مردّ هذا الكلام هو رهان الحريري على لوبي إماراتي – مصري – فرنسي يُمكن أن يضغَط في اتجاه إصدار «عفو ملكي» عنه في هذه الظروف. إلا أن أكثر من مؤشر يؤكّد استحالة بلوغ الهدف في الوقت الراهن.
أولاً، سقط الحريري عن جدول زيارات السفير السعودي في بيروت وليد البخاري الذي عادَ أخيراً الى لبنان. الأخير التقى عدداً لا بأس به من السفراء والمرجعيات الروحية، غيرَ أن اللفتة الأبرز في هذا المجال هي اختياره معراب لتكون محطته لأول لقاء سياسي علني. صحيح أن المبادرة لم تأتِ من البخاري، وأن رئيس حزب «القوات» سمير جعجع وزوجته النائبة ستريدا جعجع حاولا الاستثمار في اللحظة ووجّها دعوة للبخاري إلى العشاء، لكن الدبلوماسي السعودي لم يكُن ليُلبّيها لولا موافقة قيادته، وبالتالي كانت هذه إشارة سلبية. وفي الأيام الأخيرة أيضاً، قيلَ الكثير عن «استياء سعودي عبّر عنه السفير في بيروت من بيان الحريري الذي قالَ فيه إنه لا ينتظِر إشارة المملكة ولا غيرها لتأليف الحكومة». وتحدّثت مصادر مطّلعة عن هذا الاستياء، ناسبة إياه إلى البخاري الذي «التقى بعض المسؤولين اللبنانيين وأبقى على هذه اللقاءات بعيدة من الإعلام»، لتؤكّد بناءً على هذه الأجواء أن العلاقة بين الرئيس المكلف والرياض «مش ماشي حالها». ونُقِل عن البخاري تلميحه في مجالسه الخاصة إلى أن «الحريري لن يواجه بهاء واحداً فقط، بل سيواجه 100 بهاء».
ثانياً، كانَ الحريري في انتظار زيارة متوقعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمملكة، تقول المعلومات إنها «عُلقت» بسبب الأولويات السعودية التي يتصدّرها ملفّا اليمن وسياسة الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة. وفوق ذلِك، تقول أوساط مطلعة إن «المملكة تقطع الطريق أمام أي ضغط فرنسي في ما يتعلق بالأزمة اللبنانية، باعتبار أنها لا تحتاج إلى سمسار أو وسيط على الساحة اللبنانية، وهي متى أرادت العودة إلى المشهد فهي ستفعل ذلك مباشرة». للسعودية موّالها في ما خصّ فرنسا والمبادرة الفرنسية في لبنان، أو الدور التي تحاول باريس أن تلعبه. لم تنسَ بعدَ أن ماكرون هو الذي نفّذ عملية «تحرير» الحريري من بين يديها عام 2017 من جهة، ومن جهة ثانية ترفض أن تدفَع فلساً واحداً في لبنان «لإنعاش الشركات الفرنسية التي ستأتي الى لبنان للعمل والاستثمار بعدَ تأليف الحكومة».
أمس، برزَ مؤشر يتعلّق بالموقف الروسي من الأزمة اللبنانية، عبّر عنه بيان وزارة الخارجية الروسية الذي تناول الحل من باب «تشكيل حكومة تكنوقراطية مؤهلة، تدعمها القوى السياسية والطوائف الرئيسية في البلاد». البيان أتى بعدَ لقاء جمع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بالرئيس الحريري. ويؤكّد ما نقله أكثر من مصدر سياسي أن الروس، ومن خلال تواصلهم مع قوى سياسية لبنانية، نصحوا بتأليف «حكومة تسوية». وكانَ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الأكثر سماعاً لهذا الموقف، وقد يكون مرتبطاً بشكل أو بآخر بتصريحه عن أنه «مع حكومة تسوية وليسَ متمسكاً بحكومة من 18 وزيراً». من المفترض أن يزور لافروف المملكة العربية السعودية في إطار جولته الخليجية لبحث ملفات المنطقة، ومن بينها ملف لبنان. وقد تكون روسيا الجهة الجديدة التي يُراهن عليها الحريري بعدَ باريس والإمارات لتمهيد الطريق له الى الرياض. فهل يسلّم بصوتها الذي صبّ لصالح حكومة تسوية من دون غالب ولا مغلوب؟