لم تُظهر الاتصالات الأخيرة غير المباشرة بين الجانب الأميركي وحركة “أنصار الله” أيّ تبدُّل جوهري في طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع ملفّ الحرب على اليمن. إذ إذ إن واشنطن، التي وصلت رعايتها متعدّدة الوجوه للعدوان إلى طريق مسدود، تريد التعويض عن ذلك بمحاولة انتزاع مكاسب سياسية من قيادة صنعاء بالتهديد والترهيب، ومن دون أيّ مقابل حتى. محاولاتٌ تستمرّ “أنصار الله”، في مواجهتها، في تصعيد هجماتها في العمق السعودي، توازياً مع تواصُل عملياتها في محافظة مأرب، حيث باتت الطريق إلى مركز المحافظة شبه معبّدة، باستثناء عدد قليل من العقبات التكتيكية

لم ترْقَ اقتراحات الوسطاء، خلال الأيام الماضية، على خطّ الأزمة اليمنية، إلى مستوى طموحات قيادة صنعاء، إذ تركّزت تلك الاقتراحات على وقف الجيش اليمني و»اللجان الشعبية» هجومهما على مدينة مأرب، من دون أيّ حديث في المقابل عن وقف شامل لإطلاق النار أو رفع الحصار، ليتبيّن، بالنتيجة، أن الرسالة الأميركية التي حَمَلها الوسيط العماني إلى حكومة الإنقاذ، تتبنّى وجهة النظر السعودية بالكامل. والسعودية، إلى الآن، على رغم تخبُّطها في الرمال اليمنية، لا تزال مصرّة على إنكار الوقائع الميدانية التي تعطي التفوُّق لقوات صنعاء. كما لم تقرأ، بشكل صحيح، التحوُّلات الإقليمية التي تصبّ في مجملها في غير صالح الرياض وحلفائها. كذلك، يبدو أن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي اعتاد شراء مواقف دول كبرى، من بينها الولايات المتحدة التي نال رضى إدارتها السابقة بالصفقات التسليحية والاقتصادية، لم يستوعب بعد أن ثمّة مقاربة مختلفة مع الإدارة الحالية. على أن الأخيرة لا تَظهر، بدورها، كَمَن حسمت موقفها النهائي من ابن سلمان، إذ كلّ ما تأكّد إلى الآن أنها تضع ملفّ الحرب على اليمن في سلّة علاقاتها مع السعودية، والتي تحتاج إلى «إعادة مراجعة وتقييم» بحسبها، بل إن التوجُّه الأميركي المعلَن عنه أخيراً في هذا الملفّ لا يزال حتى اللحظة غير جادّ، وبعيداً من المسائل الجوهرية، وأقرب إلى المراوغة.
ترفع واشنطن السقوف في وجه صنعاء، ساعية إلى تحقيق إنجازات سياسية، بعدما فشلت رعايتها للحرب في بلوغ أهدافها. هكذا، تُشهر العصا الغليظة، محاوِلةً تخويف قيادة «أنصار الله»، «بمواصلة محاسبتها على تصرُّفاتها المستهجنة، بما في ذلك الهجمات المستمرّة على شركائنا السعوديين» (المتحدّث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، خلال مؤتمر صحافي نهاية الأسبوع الماضي)، وهو ما ردّت عليه الحركة بالتأكيد «أننا سنواجه العدوان والحصار بالقوة»، كما قال الناطق باسم «أنصار الله»، رئيس وفدها التفاوضي محمد عبد السلام، الذي أفاد بأنه تمّ إبلاغ الأميركيين، عبر الوسيط العُماني، بذلك الموقف. وهو ما تُرجَم على الأرض باستمرار العمليات بالطائرات المُسيّرة والصواريخ الباليستية ضدّ السعودية، وآخرها وأوسعها عملية «توازن الردع السادسة» التي استهدفت ميناء رأس تنورة وأهدافاً عسكرية في الدمام وجيزان وعسير. عملية تصيب أكثر من هدف في الوقت نفسه؛ إذ فضلاً عن أنها تُمثّل مفاوَضة بالنار، فهي تُثبّت توازن الردع الذي بنته صنعاء خلال السنوات الماضية، فيما تشير نوعية الأهداف إلى أن «أنصار الله» في طور تطوير استراتيجيتها إلى أبعد من معادلة «صافر مقابل أرامكو» (أي النفط مقابل النفط)، التي يبدو أنها تُمثّل خطوة أولى على طريق إفشال الحصار، علماً بأن لدى صنعاء الكثير من الوسائل التي تُمكّنها من الاستمرار في استراتيجيتها تلك وتطويرها.على خطّ موازٍ، اجتاز الجيش و»اللجان» حزام مدينة مأرب، والذي هو عبارة عن سلسلة تضاريس جغرافية معقّدة ومناطق ديموغرافية مختلفة الانتماءات والاتجاهات. ويمكن القول إن الطريق إلى المدينة بات مُعبّداً، باستثناء عدد قليل من العقبات التكتيكية والعوارض الحاكمة في المناطق المسطّحة، والتي تعمل قوات صنعاء على تذليلها، على أن يلي ذلك مباشرة تحديدُ الساعة الصفر لطرْق أبواب مركز المحافظة. على أن قرار دخول المدينة مُتّخذ منذ بدء الهجوم، فيما الخطط والبرامج لِما بعد دخولها باتت جاهزة، ولا تنقصها إلا لمسات أخيرة تضعها عليها إدارات الدولة المدنية والاجتماعية والأمنية التي عملت بالتوازي مع الأجهزة العسكرية والاستخبارية.
في المقابل، لم يكن أمام الجانب السعودي سوى الشكوى إلى عواصم العالم ومجلس الأمن، من دون أن يحصل إلى الآن سوى على بيانات التنديد، في وقت يستمرّ فيه في تكثيف غاراته الجوية التي لم تفلح في وقف تقدُّم الجيش و»اللجان»، وكذلك الدفع بالوكلاء المحلّيين إلى أتون المعركة. إلا أن عملية الاستقطاب تلك باتت تواجه الكثير من العُقد، بعدما نجحت صنعاء في إحداث خروقات عميقة في البيئة التي كانت تقف إلى جانب «التحالف»، والتي أصبحت مدرِكةً أن الكفّة تميل لصالح «أنصار الله». ومن هنا، فإن الكثير من المجاميع القبلية التي قاتلت في صفوف «التحالف»، انفصلت عن زعمائها الذين راكموا الثروات على حسابها، وهذا ينطبق بالتحديد على قبيلة مراد التي وسّعت من تنسيقها مع «أنصار الله» في الساعات الماضية.
على أن الإخفاق السعودي لا يتجلّى فقط في حالة التردُّد المجتمعي في البيئة المؤيّدة لـ»التحالف»، بل يشمل العديد من النواحي في إدارة المعركة، والتي يُذكَر من بينها الآتي:
– اهتراء المنظومة العسكرية التي رعتها المملكة منذ ما قبل الحرب، وكانت تعتمد عليها في تنفيذ مصالحها، حتى إن بعض قادة تلك المنظومة أعلنوا تبدُّل ولاءاتهم في الوقت الحاسم، مُوجّهين صفعات مؤلمة إلى الرياض، وآخر هؤلاء العقيد عبد الحكيم عايض المقدشي، أركان مالية كتيبة المهامّ الخاصة في وزارة الدفاع في حكومة عبد ربه منصور هادي، والمُقرّب من وزير الدفاع محمد المقدشي، والذي يُعدّ بمثابة ذراعه اليمنى.
– فشل الضغوط التي مارستها السعودية، ولا تزال، على «المجلس الانتقالي الجنوبي»، لثنيه (حتى الآن) عن موقفه الرافض للانخراط في معركة مأرب، خصوصاً في ظلّ تجاهُل المملكة لتردّي الأوضاع في المحافظات الجنوبية، واستمرار «الإصلاح» في عمليات التحشيد في محافظة أبين لمواجهة «الانتقالي». ويساعد الأخيرَ، في موقفه ذاك، وجودُ مزاج عام في الجنوب رافض للانخراط في معركة يَعتبر أن لا ناقة له فيها ولا جمل.
– تمرُّد عدد من الميليشيات الموالية للسعودية على عملية التجنيد الواسعة التي قادتها الأخيرة في المحافظات الجنوبية عبر سماسرة محلّيين. ومِن ذلك، إعلان «ألوية العمالقة» أنها غير معنيّة ببيان نائب الرئيس المستقيل، علي محسن الأحمر، الذي وَجّه بتسهيل مرور خمس كتائب من الألوية المذكورة إلى مأرب، وتأكيدها أن تموضعها محصور في الساحل الغربي فقط.