دعم المواد الغذائية الأساسية صار أثراً بعد عين. ما يحصل من إذلال للناس لن يتوقف إلا بإعلان صريح باستثناء هذه المواد من الترشيد، الذي تحول إلى أمر واقع، أو بالإسراع في مسألة البطاقة التمويلية. أما استمرار الحال على ما هي عليه، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الاستغلال لحاجة الناس من قبل مافيات لا همّ لها سوى سرقة الدعم من مستحقيه
عملياً، اللحظة التي أُعلن فيها عن السعي لترشيد الدعم كانت لحظة نهايته. منذ ذلك الحين، صار الهاجس الأول لدى سلسلة الإمداد هو التخزين. المستورد يخزّن، وبائع الجملة يخزّن، والمحال التجارية تخزّن، والمستهلكون يخزّنون. هذا يعني أنه مهما كانت الإمدادات كبيرة، فإنها لن تكفي لتأمين الاستقرار في المعروض، إلا إذا تغيّرت سياسة الدعم وخرج من يعلن أن الترشيد المتوقّع لن يشمل المواد الغذائية الأساسية، التي تُدعم أصلاً على سعر 3900 ليرة لا على سعر 1500 ليرة، ولا تكلف أكثر من 100 مليون دولار سنوياً. أي أمر آخر، سيعني استمرار الشح في الإمدادات، مقابل طلب مرتفع أصلاً، ليس ربطاً بالتخزين فحسب، بل ربطاً بتغيّر العادات الغذائية للناس، منذ نهاية العام 2019 (بسبب الأزمة الاقتصادية والحجر المنزلي المتكرر). الأمران جعلا الأسر تبتعد بشكل كبير عن المطاعم وعن المأكولات التي تدخل مواد مرتفعة الثمن في إعدادها منزلياً. أحد التجار يؤكد أن مبيعات الأرزّ والعدس والبقوليات على أنواعها ارتفعت بشكل كبير، كما ارتفعت مبيعات المواد التي تدخل في تصنيع الحلويات المنزلية، حيث ازداد اللجوء إلى هذا الخيار، بسبب ارتفاع ثمن الحلويات الجاهزة.
الترشيد كأمر واقع
بعيداً عن القرار الرسمي الذي لم يُتّخذ ولا يبدو أنه سيُتّخذ قريباً، فإن مصرف لبنان بدأ ترشيد الدعم بشكل فعلي. الآلية التي تتم فيها الموافقة على الدعم تؤدي الهدف. مستوردو المحروقات الذين كانوا يستوردون أربع بواخر شهرياً، على سبيل المثال، صاروا يستوردون ثلاثاً. لم يقلّصوا استيرادهم بإرادتهم، لكن مصرف لبنان، بعدما كان يعطي الموافقة على الدعم خلال أسبوع، صار يحتاج بين عشرة و15 يوماً أو أكثر للموافقة. الأمر نفسه يحصل بالنسبة إلى المواد الغذائية. بعد أن عمد المصرف إلى تقليص الكوتا المخصصة لوزارات الاقتصاد والزراعة والصناعة من 220 مليون دولار إلى 80 مليون دولار، صار بديهياً أن تُخفّض تلك الوزارات الكميات التي توافق على استيرادها. لكن حتى ذلك لم يكن كافياً. يشكو تجّار عاملون في المواد المدعومة من تأخر مصرف لبنان في الدفع للموردين الأجانب، ما يؤدي أيضاً إلى تأخير وصول الشحنات وتوزيعها. وبحسب المعلومات، فإن هذا السلوك بدأ يشكّل عبئاً على المستوردين، الذين يعمد بعضهم إلى سحب الملفات المقدّمة إلى وزارة الاقتصاد للحصول على الدعم، بعد أن قرروا التوقف عن الاتجار بالمواد المدعومة.
بعض المستوردين يعتبر أن هامش الربح الإجمالي المحدد من وزارة الاقتصاد بالنسبة إلى المواد المدعومة، والذي يقدر بـ7 في المئة وسطياً، لا يسمح بالكثير من المخاطرة. وبالتالي، فإن تأخر مصرف لبنان عن دفع الاعتمادات، لشهر أحياناً، مقابل احتجاز المبالغ المطلوبة بالليرة اللبنانية منذ لحظة تقديم الطلب لدى وزارة الاقتصاد، يؤدي إلى أمرين: إما دفع ثمن رسو الباخرة في الميناء إلى حين حصول المورّد على أمواله وسماحه بالتفريغ (cash against document)، بما يؤدي إلى دفع غرامة تأخير (50 دولاراً للمستوعب عن كل يوم إضافي)، وإما في حال وافقت إحدى شركات التأمين على تأمين البضاعة، يُسمح بتفريغ الحمولة في مستودعات الشركات، لكن حينها ترفض هذه الشركات توزيع المواد المستوردة في الأسواق، قبل تسلم المورّد لأمواله من مصرف لبنان. حجة هؤلاء أنهم لا يستطيعون أن يبيعوا مخزونهم بالسعر المدعوم، ثم يقرر مصرف لبنان وقف الدعم. عندها الخسائر ستكون هائلة، وقد تؤدي إلى الإفلاس، خاصة أن الفارق شاسع بين سعر المواد المدعومة (يحتسب الدولار على 3900 ليرة) وسعر السوق.
هنا يحلو لأحد المعنيين أن يميز بين التاجر الآدمي والتاجر الأزعر، ليقول إن الآدمي صارت نسبة مخاطرته كبيرة، ولذلك فإن كثراً بدأوا يفكرون في الانسحاب من التجارة بالبضائع المدعومة، لكنهم يحجمون عن ذلك لأسباب إنسانية وتسويقية (خوفاً من خسارة حصتهم السوقية).
أين المواد المدعومة؟
المشكلة الأساس حالياً أن المواد الأساسية غير متوافرة في الأسواق. السكر والزيت والحليب والأرزّ تحديداً. هذه المواد تُقطّر بالقطارة. لم تعد توضع في صالات العرض، بل تباع رأساً من «طبليات الخشب» التي تنقل عليها. خلال دقائق تنفد الكمية المعروضة. هنا، يعود السبب بحسب تجار وعاملين في محال تجارية إلى عوامل عديدة، أبرزها:
– لا تكفي الموافقات التي تعطيها وزارة الاقتصاد، بعد تخفيض الكوتا الخاصة بالسلة الغذائية، لتأمين حاجة السوق من المواد المدعومة.
– لا يسلّم التجار البضاعة بانتظام، إما لعدم توافر كميات كافية، وإما بسبب التخزين، ما يؤدي إلى قلة العرض مقابل طلب عال.
– عدم عرض المحال التجارية لكل الكميات التي لديها، إما لأنها تعمد إلى عرض المنتج على مراحل، وإما لأنها تخزّن ما أمكن.
– صار عدد من المستهلكين يرصدون أوقات عرض المنتجات المدعومة، للمسارعة إلى شرائها. هؤلاء يدركون أن الدعم سينتهي، وبالتالي يريدون تأمين مخزون من هذه المواد الأساسية لفترة ما بعد الدعم. هذه الدوامة صار العاملون في المتاجر جزءاً منها. ويشكو مديرون من ترك الموظفين لأقسامهم عند عرض المواد المدعومة، في مسعى منهم للحصول على حصتهم أيضاً.
يعمد بعض أصحاب المحال إلى توزيع الموظفين لديهم على المتاجر الكبرى بهدف شراء ما أمكن من المنتجات المدعومة، على أن يعمدوا بعدها إلى إعادة تعبئتها، وبيعها بحسب سعر السوق.
الحل لهذه المراوحة صار محصوراً بالبطاقة التمويلية. وحدها ستضمن أن يصل الدعم إلى مستحقيه (مع هامش خطأ مقبول). لكن المشكلة هي في التمويل. بحسب آخر ما توصلت إليه اللجنة الوزارية، التي دعاها الرئيس حسان دياب إلى اجتماع جديد يعقد هذا الأسبوع، في مسألة البطاقة، هو تقدير أن تشمل 700 ألف أسرة، بما يعني أن كلفتها ستكون 6.7 آلاف مليار ليرة. الصراع لا يزال مستمراً بشأن مصدر هذه الأموال. لكن كل يوم يمر من دون الاتفاق على هذه البطاقة يعني استنزاف المزيد من الدولارات على دعم لا يصل إلى مستحقيه، ويعني أيضاً تعمّد تحويل الفقراء إلى متسوّلين للقمة العيش.
سلامة يطلب من دياب استقطاب العملات الأجنبية!
لا يبدو أن مشاهد إذلال الناس قد وصلت إلى المعنيين. الهمّ لدى هؤلاء في مكان آخر. لا يزال الصراع محتدماً بين مصرف لبنان والحكومة ومجلس النواب حول الجهة التي ستتحمل مسؤولية قرار ترشيد الدعم. حاكم مصرف لبنان أرسل الأسبوع الماضي كتاباً جديداً إلى رئيس الحكومة، يطلب فيه: حسم مسألة البطاقة التمويلية وتأمين الأموال لها، تخفيض العجز في الموازنة، وضع سياسة لاستقطاب العملات الأجنبية، ورسم مسار التفاوض مع الدائنين لإعادة الثقة بلبنان.