قال المقدم احتياط د. مردخاي كيدار في تقرير له نشره “معهد بيغن السادات” أن الخبير في سلوك رؤساء الدول وكل ما يتعلق بنشر الوثائق، وتصميم السياسة وتنفيذ الأعمال، ولا سيما الحربية، يدرك أن الحديث يدور عن مسيرة سرية وطويلة ومكثفة تجري بين المكاتب قبل النشر أو التنفيذ. فالزعماء (من خلال سكرتيرييهم ومستشاريهم) يتراسلون ويتشاورون لبلورة السياسة وتخطيط الأعمال وصياغة الوثائق والبيانات معاً، حتى وإن كان الأمر يتعلق بواحد فقط من الأطراف.
عندما ينشر زعيم ما وثيقة أو يطلق تصريحاً علنيا عن السياسة، فسيكون هذا في معظم الأحوال مصمماً حتى تفاصيل التفاصيل، ومنسقاً جيداً ومصوغاً بدقة مع زعيم آخر يتعلق الأمر به. والسبب واضح: لا يريد الزعيم إحراج زعماء آخرين، ولا سيما إذا كان متعلقاً بهم ومحتاجاً لدعمهم.
ثمة مثال بسيط في هذا الشأن: انتظرت “إسرائيل” قبل الشروع في حرب الأيام الستة في حزيران 1967 ثلاثة أسابيع، وهذه الفترة تسمى “فترة الانتظار”، ولم يعرف أحد في “إسرائيل” ما الذي ينتظره عشرات آلاف رجال الاحتياط الذين جندوا للحرب.
وبعد سنين، تبين أن رئيس الوزراء في حينه، ليفي أشكول، بعث سراً برئيس الموساد مئير عميت إلى واشنطن كي يتلقى وعداً صريحاً من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون بأن تدعم الولايات المتحدة “إسرائيل” أمام الاتحاد السوفياتي، وألا توقف الحرب قبل أن تتحقق أهدافها، وأن تملأ من جديد مخازن السلاح التي ستفرغ في الحرب.
وبعد أن تحدث وزير “الدفاع” روبرت مكمنارا، مع جونسون بحضور عميت، ونال منه الالتزام آنف الذكر، أصدر أشكول تعليماته لـ “الجيش الإسرائيلي” للشروع في الحرب. وحتى اليوم، يتهمون أشكول بأنه كان متردداً، أما الحقيقة فأنه تصرف بمسؤولية.
تعنى إدارة بايدن اليوم بإعادة المسألة الفلسطينية إلى مركز الأحداث السياسية. والمشكلة من ناحيتها ليست “إسرائيل”؛ لأن “إسرائيل” أسيرة لتعلقها العميق بالولايات المتحدة، من حيث المساعدة الاقتصادية، وتوريد السلاح، وقطع غيار الطائرات والذخيرة الخاصة، وحماية سياسية في مجلس الأمن أمام تهديد على المحكمة الدولية وغيرها. إنما المشكلة –كما تراها الإدارة- هي السلطة الفلسطينية، ذاك الجسم السياسي الجنيني الذي ترك طاولة المفاوضات منذ ولاية أوباما الأولى، ومنذ أن وصف الرئيس ترامب حين شتمه محمود عباس شتمه وقال له “يخرب بيتك”، ونجا بعبقرية وقف الدعم الاقتصادي الأمريكي، ورفض الدخول إلى صفقة القرن السخية. وبناء عليه، ترى الإدارة في إعادة السلطة الفلسطينية إلى المسيرة مهمة أصعب من إعادة “إسرائيل”. ونتيجة لذلك، تستثمر وقتاً وجهداً أكبر بكثير في هذه السلطة. ونستدل على ذلك بثلاثة أحداث متوازية:
الانتخابات: مرت خمس عشرة سنة على الانتخابات الأخيرة في السلطة الفلسطينية، وفجأة، في منتصف كانون الثاني 2021، أعلن عباس عن إجراء انتخابات للبرلمان في 22 أيار وللرئاسة في 31 تموز. ماذا حصل؟ بسيط جداً، تريد إدارة بايدن تهيئة التربة لإقامة دولة فلسطينية رغم أنف “إسرائيل”، ولا شيء أفضل من عرض الدولة على الطريق كديمقراطية تماماً، بشكل يشارك فيه “كل أجزاء الشعب الفلسطيني” في الانتخابات، أي حماس أيضاً. ومن شبه المؤكد أن فكرة الانتخابات كوسيلة لخلق الشرعية جاءت من واشنطن.
حماس: كبار مؤيدي حماس هم منظمات الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة (فقد كانت حماس بالأصل ذراع الإخوان المسلمين في “فلسطين”). وحظي رؤساء هذه المنظمات بزمن نوعي مع باراك أوباما على مدى الثماني سنوات التي تولى فيها رئيساً، ولكنهم طردوا تماماً من واشنطن في أربع سنوات ترامب. والآن يعودون بعظمة إلى موقف نفوذهم في أروقة الإدارة، ويريدون تسويغ حماس. وإن عرضها كمنظمة مدنية وحزب سياسي شرعي هو السبيل لتسويغها في وسائل الإعلام الأمريكية والسياسة الدولية.
في 20 شباط بعثت قيادة السلطة الفلسطينية برسالة رسمية إلى إدارة بايدن كتب فيها أن منظمات فلسطينية، بما فيها حماس، أعربت عن التزامها بإقامة دولة فلسطينية تقوم على أساس خطوط 67 وعاصمتها شرقي القدس. لا شك بأن الرسالة صيغت بشكل مشترك من الإدارة والسلطة قبل النشر عن إرسالها، مثلما لا شك بأن حماس أعلنت استعدادها للمشاركة في الانتخابات ولوجود “إسرائيل” بحدود 67 بعد اتصالات بين قيادتها ورؤساء الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة، في ظل مشاركة الإدارة في هذه الاتصالات.
“وثيقة الحرية”: في 20 شباط، نشر عباس “مرسوماً رئاسياً بشأن تعزيز الحريات العامة في أراضي دولة فلسطين” يحل على كل الأجسام السياسية، وضمناً على حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني أيضاً. ويتحدث المرسوم عن:
1. تعزيز أجواء الحرية في كل أجزاء دولة فلسطين”، أي في قطاع غزة أيضاً.
2. منع ملاحقة الأشخاص واعتقالهم وحبسهم أو التحقيق معهم لأسباب تتعلق بحرية الإعراب عن الرأي والانتماء السياسي.
3. إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الذين اعتقلوا بسبب رأيهم أو انتمائهم السياسي، الحزبي أو التنظيمي، في كل أراضي دولة فلسطين (تحرير مخربين؟).
4. إعطاء حرية كاملة للدعاية الانتخابية التقليدية والإلكترونية، مثل النشر، والمطبوعات، وتنظيم اللقاءات والمؤتمرات السياسية وتمويلها بموجب القانون.
5. إعطاء فرصة متساوية في وسائل الإعلام لكل القوائم.
6. حماية صناديق الاقتراع من الشرطة فقط، وليس قوات الأمن في كل أجزاء دولة فلسطين”.
ولضمان وصول هذه الوثيقة إلى العيون الصحيحة في واشنطن، نشر المرسوم في صفحة “فيسبوك” الرسمية لمحمود عباس، بالإنجليزية.
السؤال الواجب هو: من الذي يجلس في الإدارة الأمريكية ويعتبر ابن مراسلات محمود عباس ويعطيه هذه “الأفكار البناءة؟”. وبالطبع، مثل هذه المعلومات ليست متوفرة، ولكن ثمة افتراض بأن الحديث يدور عن إحدى إمكانيتين: أحد ما في وزارة الخارجية ذو ميل مؤيد للعرب معروف وموثق، أو أنه ماهر البيطار، الفلسطيني النشط ضد “إسرائيل” والذي يتولى اليوم منصب المسؤول عن أسرة الاستخبارات في مجلس الأمن القومي الأمريكي. ومن شبه المؤكد أنه في منصبه هذا يرى المعلومات الأكثر حساسية التي جمعتها أسرة الاستخبارات الأمريكية، بما في ذلك من شركائها في “إسرائيل”.
إذا كانت محافل أمريكية توجه خطى قادة السلطة الفلسطينية في طريقها إلى إقامة دولة بدعم أمريكي، فإن محافل يسارية إسرائيلية تشارك بشكل شبه مؤكد في هذا الجهد وتوصي الأمريكيين والفلسطينيين بكيفية فرض دولة فلسطينية على “إسرائيل” رغم أنف الشارع الإسرائيلي الذي يخشى أن تتحول مثل هذه الدولة إلى كيان إرهاب خطير أكثر بكثير من ذاك الذين في قطاع غزة.
وللتذكير فقط: في العام 2010 دعت وزيرة الخارجية كلينتون، تسيبي ليفني التي كانت رئيسة المعارضة، إلى لقاء في واشنطن. وفي العام 2015 دعمت وزارة الخارجية الأمريكية مالياً منظمة V15 التي سعت إلى إسقاط حكم اليمين في “إسرائيل”.
المصدر: معهد بيغن السادات