عيد ميلاد سعيد، يا ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف. أو “غوربي”، كما أصبح الغرب يعرفك، والرجل الذي قالت مارغريت ثاتشر إن بوسعنا أن نتعامل معه. ويا له من تعامل: إنهاء الحرب الباردة، والترحيب بروسيا في أسرة الأمم الحرة، وتحرير الجمهوريات الأصغر الراغبة في رسم مصيرها بنفسها.
فالبيريسترويكا Perestroika (إعادة الهيكلة الاقتصادية) والغلاسنوست glasnost (الانفتاح المدني والتزام الشفافية) عنيا أن روسيا كانت مكاناً أفضل عام 1991، حين انهار الاتحاد السوفياتي أخيراً، مقارنة بما كانت عليه حين بدأ عصرك عام 1984.
كنت آخر أمين عام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي يتولى الحكم. ماذا عن إرثك الآن، يا غوربي؟
في روسيا، يرى كثر أن (عهد) غورباتشوف كان كارثة، و (هو) كان مخرباً فكك من دون داع الاتحاد السوفياتي، الذي كان قوة عظمى من دون شك. ووفق هذه الحجة، أدى ذلك إلى عصر طويل ومؤلم من الانحدار الروسي، ولم ينعكس هذا الاتجاه [ويتوقف التقهقر] إلا حين تولى فلاديمير بوتين السلطة وبدأ في إعادة التأكيد على القوة والطموح الروسيين.
لكن ذلك عنى في واقع الأمر اندلاع حروب صغيرة مع جورجيا وأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم ودعم الدكتاتورية في روسيا البيضاء، وتحريك الحروب بين أرمينيا وأذربيجان، ودعم نظامين (عميلين) client regimes في سوريا وإيران، واغتيال جواسيس سابقين، واستخدام الأسلحة الكيماوية، وزيادة الإنفاق على التسلح، وإعادة تجهيز المؤسسة العسكرية الروسية. والآن يريد بوتين تعزيز ترسانة روسيا النووية. ويبدو الأمر وكأن غوربي لم يوجد قط.
لقد تحول غورباتشوف إلى نبي لا كرامة له في وطنه، حتى مع مديح الغرب إياه. فقد حلّ أخيراً في الاستفتاءات حول الروس العظماء، وراء أمثال ستالين وحتى بريجينيف. ويبدو أن بوتين يقف في مواجهة كل ما كان غورباتشوف يسعى إليه.
لكن الآن، بات من المناسب أن يقدم بوتين بعض التقدير إلى الرجل العجوز، إن لم يكن الامتنان على وجه التحديد. فتحية عيد الميلاد الرسمية الصادرة من الكرملين لها صدى سوفياتي تقريباً: “كنت عن حق تنتمي إلى مجموعة من الأشخاص اللامعين غير العاديين، ورجال الدولة المتميزين في عصرنا، ممن كان لهم أثر كبير في مسار التاريخ المحلي والعالمي”.
وهذا لا يعني بالضرورة أن بوتين اقترب من أسلوب تفكير غورباتشوف، وأنه على وشك إطلاق العنان للديمقراطية المتعددة الأحزاب، وحكم القانون، والإعلام الحر على الشعب الروسي الغارق في التجهيل. ولعل في ذلك مطالبة بأكثر مما ينبغي. لكنه قد يعني فحسب أن بوتين، الشخصية العميقة التفكير صاحب الحيلة والدهاء، ربما يعيد تقييم خياراته في مرحلة ما بعد ترمب.
فعلى غرار غورباتشوف في الثمانينيات، بوتين اليوم أمام مفترق طرق. فهو إما أن يستمر في حربه الباردة الجديدة ويواصل التدخل في شؤون الدول الأخرى وخوض حروب دموية وعقيمة، على حساب (تدني) مستويات معيشة شعبه. وإما يستطيع أن يسعى إلى بلوغ شروط أفضل مع الغرب، وأن يتعاون ويفهم أن القوة والنفوذ في هذا القرن لم يعودا يتمثلان في احتلال الأرض وإخضاع الشعوب، وهي إمبريالية عارية عتيقة الطراز، حتى الأميركيين لم يعودوا ينغمسون فيها. لقد تخلى غورباتشوف عن الحرب التي لا نهاية لها في أفغانستان، وفي جزء منها كانت حرباً بالوكالة مع أميركا، وحري ببوتين أن يسير على خطاه في مغامراته في الشرق الأوسط.
وعندئذ، يكون صدام المصالح الحقيقية بين روسيا والغرب بسيطاً، كما كان دوماً. وبين فترة وأخرى، يدرك زعيم روسي ورئيس أميركي هذه الحقيقة، كما أدرك نيكسون وبريجينيف (ذلك)، وبعد فترة من الجمود والمراوحة، ريغان وبريجينيف. وليس هناك من الأسباب الوجيهة ما قد يمنع الروس من العودة عن ميولهم العدوانية في الوقت الحالي. وإذا لم يفعلوا ذلك، وأطلقوا سباق تسلح جديداً، سيتفوق الغرب عليهم في الإنفاق في نهاية المطاف، إلى أن يصبح الاقتصاد الروسي ضعيفاً ويصبح الشعب فقيراً إلى حد يتعين معه إعلان الهزيمة. وهذا ما أدركه غورباتشوف، وقد تصدى للحقيقة، على الرغم من أن شعبه لم يشكره قط على ذلك.
كان من المفترض أن تمثل نهاية الاتحاد السوفياتي “نهاية التاريخ”، أي اللحظة التي ينتهي فيها النزاع العقائدي بين الشيوعية والقيم الليبرالية الغربية. وكان هذا ما يدور في خلد غورباتشوف بالتأكيد. لكن الأمور جرت على نحو مختلف إلى حد ما. ولكن ثمة بريق أمل يلوح (في الأفق)، فالعادة جرت على أن يبادر شخص ما كما فعل غورباتشوف، ويسعى إلى إعادة إطلاق العلاقات بين الغرب وروسيا.
حتى عام 1987 أو عام 1988، بدا الاتحاد السوفياتي وكأنه قد يستمر عقوداً مقبلة من الزمن. فقد وُلِد السوفيات في الثورة وهزموا الفاشية وكانوا لا يزالون قوة عظمى تضاهي أميركا وكانت نداً لها. لكن بعد أربع سنوات فقط، اختفى الاتحاد السوفياتي من دون أن تُطلق رصاصة واحدة، إذ انهار تحت وطأة الضغوط الاقتصادية. لقد أصبح ببساطة غير قابل للحياة، كما أدرك غورباتشوف في المقام الأول. فهل يدرك بوتين الأمر؟
© The Independent