حسن فحص|المدن
الحمامات البيضاء التي استقبلت الحبر الاعظم ووريث الكرسي الرسولي البابا فرنسيس على مدخل الزقاق المؤدي الى منزل المرجع الاعلى للطائفة الشيعية في العالم آية الله االسيد علي السيستاني، لا شك انها ستضم الى رفيقاتها التي تلوذ بحرم ومرقد الامام علي بن ابي طالب المجاور وصاحب المدينة وحاكمها الزمني والروحي منذ عقود، ولن تختلف عن صويحباتها من حمامات مقيمة ومجاورة بان ترنو الى قبة المقام، وستحوم حول الزائرين ترقب أعينهم وارواحهم وهي تفتش عن امل لما يعانون منه وهموم تشغلهم حملوها من قرى وأطراف العراق ودساكر المدن والدول التي أتوا منها، عليهم يجدون شيئا من سلوى صاحب المقام او اجوبة من جاره الذي يجلس حارسا لمنهج جده متمسكا بما همس له في أذن التاريخ والانسانية “الناس صنفان، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق”.
فالى جانب الاهمية التي تحتلها الزيارة البابوية الى المرجعية الشيعية النجفية في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ العراق والمنطقة، خصوصا في ما انتهت اليه، من دون قصد او عن سابق تصور وتصميم، من اعتراف لهذه المرجعية والمدينة وحوزتها في قيادة الجناح الشيعي من العالم الاسلامي، وكشريك رئيس في جهود التقارب والتعايش الاسلامي المسيحي. فانها شكلت إضافة نوعية على الدور الذي تضطلع به هذه المرجعية ان كان في الداخل العراقي كصمام أمان استطاع نزع الكثير من فتائل التفجير والفتن التي كانت تتربص بالعراق ومكوناته المذهبية والدينية والعرقية، وعلى الصعيد العالمي، خصوصا العالم الشيعي والموقع الذي تشكله وتلعبه هذه المرجعية على مختلف الصعد الانسانية والروحية والثقافية والعقائدية والوسطية.
الزيارة البابوية للعراق عموما والنجف خصوصا، لا شك انها استثارت حساسيات شيعية داخل العراق وخارجه، اعادت الى الواجهة الجدل الداخلي ذا البعد الفقهي في جانب، والسياسي في جوانب اكثر حول مسألة خلافية بين مدرستين اجتهاديتين في الفقه الشيعي عنوانها ” اطلاقية وخصوصية ولاية الفقيه”، وما تمثله من جدل بين مدرستين في الفقه الشيعي واحدة عربية تمثلها الحوزة النجفية واخرى ايرانية تمثلها الحوزة القمية، ما ينتج عن ذلك من تضييق حدود تدخل المرجعية في الشؤون السياسية والتنفيذية من خارج دورها الارشادي كما تفعل المرجعية النجفية، والاطلاق في ولاية الفقيه وانخراطه في كل شؤون الدولة والسلطة والحكم كما هو الحال في المثال الايراني. ولعل ما ظهر من هذه الحساسية في التعاطي الايراني مع الزيارة البابوية الى العراق عامة والنجف خاصة في البعد السياسي كان الابرز في هذا السياق وقد عبرت عنه سلسلة من المواقف والمؤشرات لبعض المسؤولين الايرانيين ابرزها الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس حسن روحاني برئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي اعتبر فيه أن أي تدخل خارجي بالعراق يلحق الضرر به وبالمنطقة، في حين عمد المستشار السياسي لرئيس البرلمان حسين أمير عبداللهيان الى التذكير بأن تضحيات اللواء قاسم سليماني وابو مهدي المهندس في التصدي للارهاب وداعش هي التي وفرت الارضية الامنة للقيام بهذه الزيارة، وهو موقف التقى مع الموقف الذي عنونت به غالبية الصحف الايرانية المقربة او المحسوبة على النظام والمؤسسة العسكرية والتيار المتشدد، بينما استعاد اخرون المواقف التي سبق ان اعلنها زعيم الثورة والمؤسس الامام الخميني امام المبعوث البابوي عام 1979 الذي حمل رسالة من البابا يوحنا بولس الثاني فيها وساطة تتعلق بالرهائن الامريكيين المعتقلين في سفارة بلادهم بعد احتلالها من قبل ثوار شباب واعتبرت حينها بمثابة ثورة ثانية في مواجهة النفوذ والدور الامريكي في ايران وثورتها.
ولعل من ابرز ما تم التوقف عنده من نتائج قد تحملها الزيارة البابوية للعراق واللقاء مع مرجعية النجف، ان تفتح الطريق عما كان يدور الحديث عنه في الكواليس الثقافية والسياسية العراقية وظهر الى العلن في الاشهر الاخيرة حول الدفعة التي قد تقدمها هذه الزيارة لجهود التطبيع مع اسرائيل في سياق يعزز او يكرس الانفصال عن الخيار الايراني والاقتراب اكثر الى الخيار العربي – الخليجي. وما يمكن ان يحمله من تغييرات تنقل العراق الى مرحلة تسمح بمحاصرة القوى السياسية واحزاب الاسلام السياسي التي تدور في الفلك الايراني ومشروع طهران الاقليمي، وتجعل من عملية تفكيك مؤسسة الحشد الشعبي او دمجها وتذويبها في المؤسسة العسكرية أكثر قربا من الواقع والتحقق.
استطاعت المرجعية النجفية الخروج من هذا النفق – تيار التطبيع ودعاته كخيار سياسي – بحكمة نزيل النجف الذي وضع، في البيان الذي صدر عن مكتبه بعد اللقاء، المرجعيتين الاسلامية والمسيحية امام مسؤولياتهما الانسانية والاخلاقية والدينية بالتأكيد على ان ما “ينبغي ان تقوم به الزعامات الدينية والروحية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي” من خلال النهوض بواجبها بوجه القوى العظمى لنبذ الحروب في الدفاع عن المظلوم والعدالة الاجتماعية وحقوق الشعوب في العيش الكريم، والدعوة الى تضافر الجهود بين كل المرجعيات للوقوف امام السياسات التي تحاصر الشعوب المظلومة بما فيها “تلك التي في منطقتنا من حروب واعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولاسيما الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة”.
الرد البابوي جاء سريعا في بيان تلى بيان النجف وضع اللقاء مع السيد السيستاني في اطار “زيارة المجاملة” شدد فيها على “اهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية حتى نتمكن من خلال تنمية الاحترام المتبادل والحوار من المساهمة في خير العراق والمنطقة للبشرية جمعاء”.
وفي وقت أكد السيستاني “اهتمامه بان يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية، شكر الحبر الاعظم السيستاني “لانه رفع الصوت مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الاخيرة دفاعا عن الاضعف والاكثر اضطهادا”. بما يعني ان هذه المواقف اعادت وضع الزيارة في اطارها الطبيعي الروحي بعيدا عن التوظيف السياسي الذي كانت تطمح له بعض الجهات، اما باتجاه استغلال اي ايجابية من مرجعية النجف في المسائل الاقليمية للبناء عليها، من قبل المؤيدين للذهاب فيها الى النهايات التي يريدونها، ومن قبل المعارضين لتحويلها الى منصة للتصويب والاستهداف من منطلقات عقائدية تخدم مصالحهم الخاصة على حساب الدولة وتخدم مشاريع اقليمية تدور هذه القوى في فلكها.