كان موالون وصفحات موالية قد دأبوا في الأشهر الماضية على مناشدة بشار التدخل لوضع حد للتدهور المعيشي، فهو بموجب تلك المناشدات سيلجم الفاسدين من حوله، وسيعرف كيف يتصدى للمؤامرة الكونية المتعينة بالعقوبات الاقتصادية. إخراج بشار من دائرة المسؤولية عما آلت إليه الأمور لا يقف لدى الجميع عند تنزيهه عن الأخطاء، ففي المقابل كان ثمة إصرار على قدرته على معالجة الوضع، إذا قرر وضع ثقله من أجل ذلك. أي أن التبرئة تندرج في عملية مقايضة، أو هي بمثابة رشوة ضرورية لعلها تحفّزه على فعل ما يجب فعله بصفته الدولة ومالكها معاً.
هكذا تأتي مخاطبة حافظ الأسد تعبيراً عن اليأس من وريثه، بل من المرجح أنها ذروة اليأس التي تقتضي عودة ذلك “الرب”، أو عودة الإمام الغائب. ما يحدث في الواقع قياميّ، أو يدنو من تصورات موروثة عمّا قبل القيامة. إنه البؤس الذي لا يُطاق، والذي يجوز اعتباره تمهيداً لقيامة حافظ الأسد العائد لإنقاذ شعبه. وإذا أعطتنا المخاطبة مادة للسخرية، يبقى الأهم فيما تعبّر عنه من عجز لا يرى بصيص أمل سوى في اللامعقول.
خارج معسكر الموالاة، وتعبيراته الإعلامية التي لا ينبغي أخذها غالباً على محمل الصدق، من المحتمل جداً أن يكون كثر من الواقعين تحت سيطرة الأسد يصبّرون أنفسهم بطريقة مشابهة. من المحتمل جداً أن هؤلاء أيضاً ينتظرون معجزة من الغيب، إذ لا يرون خلاصاً بأقل من معجزة، مثلما من المحتمل أن يلجؤوا إلى مقولات دينية تناسب معتقداتهم، وتحثهم بالطريقة ذاتها على الصبر والانتظار. إنهم سيستعينون بالمقولات التي تناسب أوضاعهم، وتشجعهم على فعل ما يفعلونه حقاً أو ما لا يفعلونه، لتقدّم لهم السلوى بأنه الوحيد الذي يمكن فعله.
لاستجداء الغيب هذه المرة وقع مختلف، أقوى مما كان عليه في أي وقت. إننا لا نستطيع دحضه بعقلانية واقعية يمكن صرفها مباشرة، أي يمكن البرهان ولو شكلياً على احتمال تحققها ونجاعتها. ليس لدينا سيناريوهات ممكنة التحقق لنطرحها كبديل، وأقصى ما ينتظره بعض العقلانيين حدوث معجزة من نوع آخر، كأن تتفق الدول المتحكمة بالشأن السوري على دفن الحقبة الأسدية وفتح صفحة جديدة، وهو افتراض في مقام المعجزة حتى الآن.
باستثناء عبارات المواساة والتعاطف، المطعّمة أحياناً بأمل غامض أو مخادع، لا يملك أحد ما يقدّمه للعالقين في الجحيم السوري. لا أحد مثلاً يجرؤ على نصحهم بالثورة، فالسلطة التي لا تكترث بهمومهم المعيشية تحتفظ بما يفيض عن حاجتها من المخابرات والشبيحة الجاهزين لقمع أي احتجاج. لا ثورة جياع، وعندما ينهش الجوع إلى حد لا يُطاق المستويات الدنيا والوسطى من جهاز القمع فسنشهد على الأرجح حالات من الفلتان والفوضى تتجلى بارتكاب الجرائم، ولن تأخذ طابع الانتفاضة ولن تكون موجهة ضد السلطة.
جرّب سوريون قبل عشر سنوات امتلاك قرارهم ومصيرهم، عبّروا عن ذلك بهتاف “الشعب يريد..”، لكنهم سرعان ما اضطروا إلى طلب النجدة من قوى الخارج. لم يأتِ “المنقذ” الخارجي بسبب استغاثاتهم؛ أتى وبقي بموجب مصالحه وبموجب صراعات النفوذ الدولية والإقليمية. بعض الذين هتفوا “الشعب يريد..” انتهى بهم المطاف إلى هتاف “يا الله ما لنا غيرك”، وبعضهم الآخر صمت نهائياً. قلائل فقط بقوا على عادتهم في بيع الوهم “الثوري”، ونراهم يخترعون بين الحين والآخر معجزة سيأتي بها أولئك المنقذون، أو حتى سيأتي بها حلفاء الأسد.
ذلك الدرس الماثل الطازج لن يشجع ضحايا المجاعة على الظن بأنهم قادرون على فعل شيء، وفوق الدرس السوري لدينا الدرس العراقي أيام العقوبات على صدام حسين، حيث بلغ التدهور المعيشي مستويات أقسى مما هو الحال عليه حتى الآن في سوريا، ومع قسوتها أفادت الإحصائيات آنذاك بتزايد عدد الباحثين عن السلوى في الغيبيات. اليوم، هناك إلى الجوار درس لبناني لم يكن متوقعاً، هو أيضاً درس في ترك البلد الذي كان السوريون يرونه محظوظاً بالرعاية والاهتمام الدوليين والإقليميين.
بينما كانت تلك الصفحة الموالية تطالب حافظ الأسد بالنهوض والعودة لإنقاذ شعبه من الضباع، كانوا سوريون آخرون يستذكرون تحرير مدينة الرقة من قوات الأسد قبل ثماني سنوات، ويستذكرون على نحو خاص تحطيم التمثال الضخم لحافظ الأسد وقيام أحد رجال المدينة بالتبول عليها أمام الحشد. في وعي الذين حطموه، لم يكن تمثالاً، كان صنماً وفق التعبير الشعبي الذي يُقصد به “الوثن-الإله”، وهو مطابق من الجهة الأخرى لمفهوم موالين يطالبونه بالقيامة الآن.
نفترض أن الموالي الذي يطالب وثنه بالنهوض والعودة أقل غباء من أن ينتظر تحقق أمنيته، ومن المؤسف أنه لا يستطيع تمثّل المروية القديمة عن أولئك الذين كانوا يأكلون أصنامهم عندما لا تأتي لهم بالرزق، وإلا كانت تماثيل حافظ الأسد الموجودة في كل حيّ وقرية تكفلت بسدّ جزء من المجاعة الحالية. حسبه أن يمضي مع منطقه إلى الآخر، فإذا كان بشار قد امتنع عن تلبية مناشداته، ثم امتنع أبوه عن القيام والعودة، ربما حان الوقت كي يشهر يأسه المدقع الخالي من الأوهام.
قبل عشر سنوات، كان هذا الموالي يفترض أن غيره سيُباد أو يُعتقل أو يُهجَّر، وسيكون هو سيداً في بحبوحة على أنقاض الضحايا. كان الصامت على المقتلة يُمنّي نفسه بالنجاة، وبأنها أيام صعبة وتنقضي ليستتب الهدوء بعدها. ليس من الشماتة تذكير هؤلاء البؤساء بكل ذلك، في الأصل لا ينفع التذكير ما لم يفهموا من تلقاء أنفسهم درس الخسارة المعممة ويقتلوا ذلك الوثن الذي في رؤوسهم.