في ما يبدو استمراراً لاستراتيجية «أمسكوني وإلّا»، جدّدت إسرائيل تهديداتها بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، على وقع الحراك الجاري لإعادة إنتاج حلّ تفاوضي بين واشنطن وطهران. حلٌّ يَظهر أن تل أبيب شديدة التخوُّف من تداعياته، وهو ما يدفعها إلى البعث برسائل تهديد مزدوجة إلى كلّ من الحليف والعدوّ، على أمل ردع الأول، وتحذير الأخير من الاستهانة بمصالح الدولة العبرية في سعيه إلى تحقيق مصالحه الخاصة
ولا تتعلّق استراتيجية «أمسكوني وإلّا»، فقط، بأن تُقدِم إسرائيل نفسها، على تواضع قدراتها ربطاً بالأهداف التي توحي بأنها تُخطّط لمهاجمتها، على عمل عسكري ضدّ إيران، بل وأيضاً باليوم الذي يلي الهجوم، وإن اقتصر الأخير على هدف نووي واحد. ما تأمل تل أبيب ترسيخه لدى واشنطن هو بالضبط ما تخشاه الأخيرة، أي أن تُقدِم إسرائيل على عمل عدائي مباشر ضدّ إيران، يُجبر أميركا على الانجرار إلى مواجهة عسكرية، تؤدّي بدورها إلى حرب منفلتة، تعمل الولايات المتحدة وتسعى جادّة إلى الابتعاد عنها. سيناريو يبدو خارج دائرة التقديرات الفعلية، بالنظر إلى أنه من شبه المستحيل أن يعمد صاحب القرار في تل أبيب إلى التسبُّب بدفع واشنطن إلى حرب لا تريدها وتضرّ بمصالحها. نعم، بإمكان إسرائيل التحريض والتشويش ورفض الحلول الدبلوماسية والدفع نحو مزيد من الضغوط على إيران، لكن لا يمكنها أن تَجرّ، علناً وقسراً، الولايات المتحدة، إلى حرب لا تريدها.
ذلك أن أميركا ليست مجرّد طرف ثالث تَدخّل في صراع بين حليفه وعدوّ حليفه. كما أن مواجهة إيران ليست شأناً إسرائيلياً تتعاطف الولايات المتحدة مع حليفتها فيه، وتصطفّ إلى جانبها في السعي إلى إنجاحه، بل هي شأن أميركي أوّلاً، يتّصل بعائق استراتيجي وتهديد مادي تُمثّله الجمهورية الإسلامية في وجه السياسات الأميركية في المنطقة. والخسائر المترتّبة على هذا التهديد دفعت الولايات المتحدة، منذ ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ولا تزال تدفعها، إلى المواجهة الفاعلة والحثيثة والمستمرّة، وهي في الواقع لم تترك خياراً في مواجهة إيران إلّا وسلكته خلال العقود الأربعة الماضية، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائها. باختصار، المعركة ضدّ إيران معركة أميركية بامتياز، وهي تُخاض من أجل تحقيق المصالح الأميركية أولاً، وليس فقط، وإن كانت كذلك أيضاً، في سبيل الدفاع عن مصلحة حليف إقليمي، سواء علا شأنه كإسرائيل، أو كان ما دون مكانة الأخيرة كالحكّام العرب. بناءً عليه، إن كانت لأميركا مصلحة، ضمن معادلة الكلفة والجدوى وبلحاظ حجم التهديد وأذيّته وداهميّته، في أن تسلك الخيار العسكري ضدّ إيران، لكانت سلكته من دون إبطاء. وتلك معادلة قائمة وفاعلة ومؤثّرة في القرارات الأميركية والتوجُّهات العامة لواشنطن في مواجهة طهران، سواءً كان التحريض الإسرائيلي حاضراً أم لم يكن، مع الإشارة هنا إلى أن ما تراه تل أبيب في التهديد الإيراني، من حيث كونه وجودياً، يختلف عمّا تراه واشنطن فيه، على أهمّيته بالنسبة إليها.
في الوقت نفسه، يُوجَّه خطاب التهديدات الإسرائيلية، إلى إيران، بغضّ النظر عن صدقيّته ومدى تفاعل الإيرانيين معه، وذلك على أمل ردع الجمهورية الإسلامية عن مواصلة جهدها النووي، ودفعها إلى تليين موقفها في تفاوضها مع الجانب الأميركي، والتخفيف من سقوف توقُّعاتها، بما يمكن أن يُمثّل أيضاً ورقة ضغط بأيدي الأميركيين، وورقة ضغط عليهم في الوقت نفسه، لِحَثّهم على ضبط تنازلاتهم، والتقليل من الخسائر الإسرائيلية.
من خلال كلّ ما تَقدّم، يمكن تفسير حديث غانتس أمس إلى شبكة «فوكس نيوز»، المُوجَّه إلى الأذن الأميركية، وبالتوازي إلى الأذن الإيرانية. قال غانتس إن الجيش الإسرائيلي يعمل طيلة الوقت على تحديث الخطط الخاصّة باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، وهو «مستعدّ للعمل بصورة مستقلّة»، عن الإرادة والمساعدة الأميركيتَين، كما يدّعي، في ما يبدو أنه لزوم التخويف وتظهير الجدّية في اتجاه طهران وواشنطن على السواء. وفي الإطار نفسه، أشار إلى أن إسرائيل رصدت أهدافاً كثيرة في إيران، «إذا تمّ المساس بها، أصيبت قدرة النظام في طهران على تطوير قنبلة نووية». كذلك، أكّد رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في اتصال هاتفي هو مَن بادر إليه مع نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، التزامه بمنع إيران من إمكانية تطوير أسلحة نووية «معدّة لإبادة دولة إسرائيل»، على حدّ تعبيره، فيما ذكر بيان صدر عن البيت الأبيض أن هاريس شدّدت، بدورها، على التزام الولايات المتحدة، «غير القابل للاهتزاز، بأمن إسرائيل»، وعلى أن «الدولتين ستواصلان العمل على التعاون في الشؤون الأمنية في الشرق الأوسط، ومنها المشروع النووي لإيران وتَصرُّفها الخطير في المنطقة».