أطلق نداء صارخاً: فلتصمت الأسلحة.. ولتتوقّف المصالح الخارجية ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام
دوللي بشعلاني- خاص «الديار»
تحقّقت الزيارة البابوية التاريخية الرسولية المنتظرة الى العراق، هذا البلد الممزّق والمشرذم الذي دمّرته الحرب والنزاعات القائمة فيه منذ عقود، عندما وطأت قدما الحبر الأعظم البابا فرنسيس (البالغ من العمر 84 سنة) أرض المطار مستهلا بذلك زيارته الى بغداد التي تستمرّ من 5 الى 8 آذار الجاري التي يحمل خلالها رسالة سلام ومصالحة، على أن يُغادر عائداً الى الفاتيكان صباح الإثنين المقبل. ويُحقّق البابا فرنسيس حلم البابا القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني إذ وعد العراقيين بزيارتهم في العام 2000 ثمّ جرى إرجاء هذه الزيارة من دون الكشف عن الأسباب يومئذٍ. وجرى الإعلان عن السبب الحقيقي وراء تأجيل الزيارة بعد 17 عاماً وهو أنّ إدارة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش قد رفض رفضاً قاطعاً قيام البابا يوحنا بولس الثاني بها، لا سيما بعد انهيار المحادثات مع الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، ووجّهت له تهديداً، بطريقة ديبلوماسية، بأنّه فيما لو أصرّ على المجيء الى العراق رغم الرفض الأميركي فسيتعرّض مطار بغداد للقصف بهدف إعاقة هذه الزيارة.
وتحت شعار «أنتم أخوة جميعاً» الذي كتب باللغات العربية والآرامية والكردية، بدأت أمس زيارة الحبر الأعظم الدينية والسياسية الى بلاد الرافدين الذي لم يشأ أن يُخيّب آمال العراقيين مرّة جديدة تلبية لدعوة من رئيس البلاد برهم صالح. فقد تخطّى البابا كلّ المحاذير والتوتّرات الأمنية لا سيما بعد سقوط نحو عشرة صواريخ قبل يومين من موعد زيارته على قاعدة جوّية تستضيف قوّات أميركية وعراقية أخرى تابعة للتحالف الدولي. كما تخطّى التحديات الصحيّة الصعبة بسبب ارتفاع أعداد الإصابات بوباء «كورونا»، فضلاً عن تقدّمه في السنّ، وذلك لإظهار تضامنه مع العراقيين المعذّبين والمتألمين عموماً ومع المسيحيين المضطهدين خصوصاً. علماً بأنّ عدد مسيحيي العراق اليوم هو 300 ألف شخص، بعد أن كانوا مليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وما تلاه من عنف مارسه عليهم تنظيم «داعش» والإرهابيون أدّى الى هجرة عدد كبير منهم الى دول الجوار والخارج. كذلك يبقى اليوم الكثير من مسيحيي سهل نينوى مهجّرين، وعدد كبير من الكنائس مهدّماً، وثمّة تحفّظات على استعمال ما هو صالح منها حتى في بغداد… وكان البابا قد وجّه رسالة الى العراقيين عشية زيارته قال فيها: «آتيكم حاجّاً تائباً لكي ألتمس من الربّ المغفرة والمصالحة بعد سنين من الحرب والإرهاب، وأسأل الله عزاء القلوب وشفاء الجِراح».
وزيارة البابا التي تحمل رسالة الى المسيحيين والأقليات بضرورة البقاء في أرضهم في منطقة الشرق الأوسط، والى المسلمين بضرورة تعزيز الحوار والإنفتاح بين مختلف الأديان، تهدف بالدرجة الأولى الى دعم العراق شعباً وكنيسة، وإيصال رسالة لقبول الآخر، وهذا ما حدث في بلدان أخرى زارها في الشرق الأوسط مثل الإمارات العربية ومصر. وكشفت مصادر مطّلعة لجريدة «الديار» بأنّ البابا فرنسيس يتحضّر للقيام بزيارة تاريخية الى سوريا قريباً لم يتمّ الإعلان عنها بعد.
أمّا زيارة قداسته الى العراق فتشمل 6 مدن هي بغداد، مدينة أور الأثرية، النجف، إربيل، الموصل وقره قوش. ويلتقي قداسته خلالها القادة السياسيين والروحيين والأساقفة والكهنة والسلك الديبلوماسي والمجتمع المدني، على أن يُتوّجها اليوم السبت بلقاء المرجعية الشيعية الأعلى في البلاد آية الله العظمى علي السيستاني في مدينة النجف الأشرف في جنوب العراق الذي لم يظهر الى العلن بتاتاً، والذي سبق وأن دعا الى احترام الأقليات وحماية المسيحيين وكنائسهم.
هذا ولقيت زيارة البابا فرنسيس ترحيباً واسعاً من مختلف القيادات السياسية والدينية والشعبية في العراق، وتمكّنت للمرة الأولى من إرساء لحمة النسيج العراقي المنقسم منذ عقود حولها، كما حظيت باهتمام سياسي وإعلامي في مختلف أنحاء العالم. وجرت في ظلّ تدابير أمنية مشدّدة غير مسبوقة إذ نشرت الشرطة العراقية عشرة آلاف عنصر من قوّات الأمن، وضبّاطاً سريّين من المخابرات والأمن الوطني وسط التجمّعات التي يحضرها قداسته للحفاظ على سلامته الشخصية. كما رُفعت أعلام الفاتيكان وأعلام الجمهورية العراقية على أسطح المباني وعلى جنب الطرقات التي سيسلكها البابا خلال الزيارة ترحيباً بالضيف الكبير. وتنقّل موكب البابا وحده في طرق فارغة بسبب الحجر الإلزامي الذي فرضته السلطات خلال الأيام الثلاثة التي ستستغرقها زيارته للوقاية من كوفيد-19. كما وضع البابا فرنسيس الذي تلقّى اللقاح ضد فيروس «كورونا» في الفاتيكان قبل أسابيع، كمامة، مشدّداً على أهمية «أن نخرج من زمن المحنة هذا»، زمن الجائحة، «أفضل ممّا كنا عليه من قبل، أن نبني المستقبل على ما يوحّدنا وليس على ما يفرّق بيننا».
الوصول الى مطار بغداد
وكانت حطّت طائرة تابعة لشركة «أليطاليا» مطار بغداد الدولي تقلّ قداسة البابا ومرافقيه وطاقماً أمنيّاً ونحو 75 صحفياً، الواحدة من بعد ظهر أمس الجمعة بتوقيت بيروت الى العراق قادماً من روما في أول زيارة له الى خارج الفاتيكان منذ تفشّي وباء كورونا، والزيارة الـ 33 له منذ بداية حبريته في 13 آذار 2013. وكان في استقباله في مطار بغداد الدولي رئيس الوزراء العراقي الدكتور مصطفى الكاظمي وعدد من المسؤولين العراقيين. وجرى اصطحاب الأب الأقدس الى قاعة الشرف في المطار وسط إطلاق حمامات السلام وترحيب شعبي بأزياء فولكلورية عُزفت خلاله الموسيقى العراقية الفولكلورية التي حازت على استحسان البابا الذي ابتسم وبارك الحضور.
القصر الرئاسي
بعدها توجّه قداسته عند الثانية في سيّارة مصفّحة، خلافاً للمعتاد، حفاظاً على أمنه وسلامته الى القصر الرئاسي حيث أقيمت مراسم الترحيب بقداسته وجرى استقباله من قبل الرئيس العراقي برهم صالح الذي ألقى كلمة رحّب فيها بالبابا فرنسيس «ضيفاً عزيزاً كريماً» في العراق، في بداية زيارته التاريخية. وقال: «هناك فرصة تاريخية لجعلها مناسبة لإعادة التأكيد على قيم المحبة والسلام والعيش المشترك ودعم التنوع الديني والإجتماعي»، واصفاً ذلك بـ»قيم إنسانية يصل صداها إلى العالم أجمع». وشدّد صالح على أنّ الوجود المسيحي في الشرق الأوسط ليس وجوداً طارئاً».
كلمة البابا فرنسيس
وألقى الحبر الأعظم خطاباً في القصر الرئاسي خلال لقائه الرئيس صالح، في حضور أعضاء الحكومة العراقية والسلك الديبلوماسي وممثلي المجتمع المدني أتى بمثابة «خارطة طريق»، دعا خلاله الى التصدّي لآفة الفساد، وسوء استعمال السلطة، في إطار دعمه للسلطات العراقية من أجل تحسين أوضاع البلاد. وأضاف: «لكنّ ذلك لا يكفي، إذ ينبغي في الوقت نفسه تحقيق العدالة وتنمية النزاهة والشفافية وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك». وأطلق نداء صارخاً «لتصمت الأسلحة»، مشدّداً على «الإرث الغني» الذي يُشكّله وجود المسيحيين في الشرق. وجدّد البابا التأكيد على أنّه يأتي «تائباً يطلب المغفرة من السماء ومن الإخوة للدمار الكثير وقسوة البشر»، و»حاجّاً يحمل السلام».
وقال في كلمته: «أنا مُمْتَنٌّ لأنِّي اسْتَطَعْتُ أنْ آتِيَ إلى هذهِ الأرْض، مَهْدِ الحَضَارَة، والمُرْتَبِطَةِ ارتِباطًا وَثيقًا، مِن خِلالِ أبِينا ابراهيم والعَدِيدِ مِن الأنْبِياء، بِتاريخِ الخَلاصِ والتَقَاليدِ الدِينِيَّةِ الكُبرى، اليَهودِيَّةِ والمَسِيحِيَّةِ والإسْلام». وأضاف: «جِئْتُ حاجًّا لأُشَجِّعَهُم في شَهادَتِهِم للإيِمانِ والرَجاءِ والمَحَبَّة، في وَسَطِ المُجْتَمَعِ العِراقي. أُحَيِّي أَعضاءَ الكَنائِسِ الأُخْرَى والجَماعاتِ الكَنَسِيَّةِ المَسِيحِيَّة، والمُؤْمِنينَ المُسلِمِين وَمُمَثِلِي سائِرِ التَقاليدِ الدينيَّة. لِيَمْنَحْنا اللهُ أنْ نَسيرَ مَعًا، إخْوَةً وأَخَوات، في «القَناعَةِ الراسِخَةِ بأنَّ التَعاليمَ الصَّحيحَة لِلأدْيانِ تَدعُو إلى التَمَسُّكِ بِقِيَمِ السَّلام والتَعارُّفِ المُتَبادَل والأُخُوَّةِ الإنسانيَّة والعَيْشِ المُشْتَرَك».
وتابع قداسته: « تَأْتي زِيارَتي في زَمَنٍ يُحَاوِلُ فيهِ العالَمُ بأسْرِهِ أنْ يَخْرُجَ مِن أَزْمَةِ جائِحَةِ فيروس الكورونا، والتي لمْ تُؤَثِّرْ فَقَط في صِحَةِ العَديدِ مِننَ الناس، بَلْ تَسَبَّبَتْ أيضًا في تَدَهْوُرِ الظُروفِ الاجْتِماعِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ التي كانَتْ تُعاني أصْلًا مِنَ الهَشاشَةِ وَعَدَمِ الاسْتِقرار. تَتَطَللَّبُ هذهِ الأزْمَةُ جُهُودًا مُشْتَرَكَةً مِن كُلِّ واحِد، لاتِخاذِ العَديدِ مِنَ الخَطَواتِ االضَّرُورِيَّة، بِما في ذَلِكَ تَوْزيعٌ عادِلٌ لِلُّقاحٍ يَشْمَلُ الجَميع. وهذا لا يَكْفي: هذهِ الأزْمَة، هيَ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ دَعْوَةٌ إلى «إعادَةِ التَفْكيرِ في أَنْماطِ حَياتِنا، وَفي مَعْنَى وُجودِنا». وهذا يَعْنِي أنْ نَخْرُجَ مِن زَمَنِ المِحْنَةِ هذا أَفْضَلَ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ مِن قَبْلُ، وَأنْ نَبْنِيَ المُسْتَقْبَلَ علَى ما يُوَحِّدُنا وَلَيْسَ علَى ما يُفرِّقُ بَيْنَنا».
وتابع: « على مَدَى العُقُودِ الماضِيَّة، عانَى العِراقُ مِن كَوارِثِ الحُروبِ وآفَةِ الإرْهابِ وَمِن صِراعاتٍ طائِفِيَّةٍ تَقُومُ غالِباً على أُصُولِيَّةٍ لا تَسْتَطِيعُ أنْ تَقْبَلَ العَيْشَ مَعًا في سَلام، بَيْنَ مُخْتَلَفِ الجَماعاتِ العِرْقِيَّةِ والدينيَّة، بِمُخْتَلَفِ الأَفكارِ والثَقافات. كلُّ هذا جَلَبَ المَوْتَ والدَمار، وَأَنْقاضًا ما زالَتْ ظاهِرة لِلْعَيان، وَلَيْسَ فَقَط على المُسْتَوَى المادِي: فالأَضْرارُ أَعْمَقُ بِكَثيرٍ في القُلُوبِ، إذا فَكَّرْنا في الجُرُوحِ التي مَسَّتْ قُلُوبَ الكَثيرِ مِن الناسِ والجَماعات، والتي سَتَسْتَغْرِقُ سَنَواتٍ لِلْشِفاء. وَهُنا، مِن بَيْنِ الكَثيرينَ الذينَ عانَوْا وتأَلَّمُوا، لا يَسَعُني الاأنْ أَذْكُرَ اليَزِيدِيّين، الضَّحايا الأَبْرياء لِلْهَمَجِيَّةِ المُتَهَوِّرَة وعَديمَةِ الإنسانيَّة. فَقَدْ تَعَرَّضُوا للاضْطِهادِ والقَتْلِ بِسَبَبِ انْتِمائِهِم الديني، وَتَعَرَّضَتْ هُوِّيَتُهُم وَبَقاؤُهُم نَفْسُهُ لِلْخَطَر. لذَلِك، إذا اسْتَطَعْنا نَحْنُ الآنَ أنْ نَنْظُرَ بَعْضُنا إلى بَعْض، مَعَ اختِلافاتِنا، وَكَأَعْضاءٍ في العائِلَةِ البَشَرِيَّةِ الواحِدَة، يُمْكِنُنَا أنْ نَبْدأَ عَمَلِيَّةَ إعادَةِ بِناءٍ فَعَّالَة، وَيُمْكِنُنَا تَسليمُ عالَمٍ أفضَلَ لِلأَجْيالِ القَادِمَة، أَكْثَرَ عَدْلاً وأَكْثَرَ إنسانِيَّة. في هذا الصَّدَد، فإنَّ الاخْتِلافَ الدينيَّ والثَقافيَّ والعِرقيّ، الذي مَيَّزَ المُجْتَمَعَ العِراقي، مُدَةَ آلافِ السِنين، هُوَ عَوْنٌ ثَمينٌ للاستِفادَةِ مِنْهُ، وَلَيْسَ عائِقًا لِلْتَخَلُّصِ مِنْهُ. والعِراقُ اليَوْمَ مَدْعُوٌّ إلى أنْ يُبَيِّنَ لِلْجَميع، بخاصَةً في الشَّرْقِ الأَوْسَط، أنَّ الاخْتِلافات، بَدَلًا مِن أنْ تُثيرَ الصِّراعات، يَجِبُ أنْ تَتَعاوَنَ في وِئامٍ في الحَياةِ المَدَنِيَّة».
وتوجّه البابا إلى السلطات المدنية في العراق قائلاً: «يَحْتاجُ العَيْشُ الأَخَويُّ مَعًا إلى حِوارٍ صَابِرٍ وَصَادِق، يَحْميهِ العَدْلُ واحتِرامُ القانون.. إنَّها ليْسَت مُهِمَّةً سَهْلَة: إنَّها تَتَطَلَّبُ جُهْدًا والتِزامًا مِنَ الجَميع، لِلْتَغَلُبِ علَى رُوحِ العَداءِ والمُجابَهات، وَتَتَطَلَّبُ أنْ نُكَلِّمَ بَعْضُنا بَعْضًا إنطِلاقًا مِن أَعْمَقِ هُوِّيَّةٍ تَجْمَعُنا، وَهي هُوِّيَّةُ أبناءِ اللهِ الواحِدِ والخالِق. علَى أَساسِ هذا المَبْدأ، فإنَّ الكُرْسِي الرَّسُولي، في العِراقِ وفي كُلِّ مَكان، لا يَتْعَبُ أبَدًا مِن مُناشَدَةِ السُّلُطاتِ المُخْتَصَة لِمَنْحِ الاعْتِرافِ والاحْتِرامِ والحُقُوقِ والحِمايَةِ كُلّ الجَماعاتِ الدينيّة. إنَّني أُقَدِّرُ الجُهُودَ التي بُذِلَتْ بالفِعْلِ في هذا الاتِجاه، وأَضُمُّ صَوْتي إلى صَوْتِ الرِجالِ والنِساءِ ذَوي النَوايا الحَسَنَة، حتَى يَسْتَمِرُّوا في مَسْعَاهُم لِخَيْرِ البَلَدِ وَمَنْفَعَتِه».
وأضاف: «إنَّ المُجْتَمَعَ الذي يَحْمِلُ سِمَةَ الوَحْدَةِ الأَخَوِيَّة، هُوَ مُجْتَمَعٌ يَعيشُ أَفْرادُهُ مُتَضامِنِينَ فيما بَيْنَهُم. «يُساعِدُنا التَضامُنُ علَى رُؤْيَةِ الآخَر بِمَثابَةِ قَريبٍ لنا، وَرَفيقٍ لِلْدَرْب». التَضامُنُ فَضيلَةٌ تَحْمِلُنا علَى القِيامِ بأَعْمالٍ مَلْمُوسَةٍ لِلْرِعايَةِ والخِدْمَة، مَعَ إيلاءِ اعْتِبارٍ خاصّ لأَكْثَرِ الناسِ ضُعْفاً وَحاجَة. أُفَكِرُ في الذينَ فَقَدُوا، نَتيجَةَ العُنْفِ والاضْطِهادِ والإرْهاب، عائِلاتِهِم وَأَحِباءَهُم وَبُيُوتَهُم وَمُمْتَلكاتِهِم الأَساسِيَّة. وأُفَكِرُ في جَميعِ الذينَ يُكافِحونَ كُلَّ يَوْمٍ بَحْثًا عَنِ الأَمْنِ وَعَنِ الوَسائِلِ التي تُمَكِّنُهُم مِن المُضِيِّ قُدُمًا، بَيْنَما تَزْدادُ البَطالَةُ والفَقْر. إنَّ «مَعْرِفَتَنا بِمَسْؤُولِيَتِنا تُجاهَ ضَعْفِ الآخَرينَ»، يَنْبَغي أنْ تُلْهِمَ كُللَّ جُهْدٍ لِخَلْقِ إمكاناتٍ عَمَلِيَّة على الصَّعيدَين الإقتِصادي والتَرْبَوي، وَكَذَلِكَ لِلْعِنايَةِ بالخَلِيقَة، بَيْتِنا المُشْتَرَك. بَعَدَ الأَزْمَة، لا يَكْفِي إِعادَةُ البِناء، بَلْ يَجِبُ أنْ يَتِمَّ بِشَكْلٍ جَيِد: حَتَى يَتَسَنَى لِلْجَميعِ التَمَتُّعُ بِحياةٍ كَريمَة. لا نَخْرُجُ مِنَ الأَزْمَةِ كَما كُنَّا مِن قَبْل: إمَّا نَخْرُجُ في حالَةٍ أَفْضَل أوْ أَسْوأ».
وقال: «بِصِفَتِكُم مَسْؤُولينَ سِياسيِّينَ وَديبْلُوماسيِّين، أنْتُم مَدْعُوُّونَ إلى تَعْزيزِ رُوحِ التَضامُنِ الأَخَويِّ هذا. مِنَ الضَّرُوري التَصَدِّي لآفةِ الفَساد، وَسُوءِ اسْتِعْمالِ السُّلْطَة، وَكُلِّ ما هُوَ غَيْرُ شَرْعي. وَلَكِنْ هذا لا يَكْفي. يَنْبَغي في الوَقْتِ نَفْسِهِ تَحْقِيقُ العَدالَة، وَتَنْمِيَةُ النَزاهَةِ والشَفافِيَّة، وَتَقْوِيَةُ المُؤَسَّساتِ المَسْؤُولَةِ عَن ذَلِك. بِهَذِهِ الطَريقَة، يُممْكِنُ أنْ يَزْدادَ الاسْتِقْرار، وأنْ تَتَطَوَّرَ سِياسَةٌ سَليمَةٌ قادِرَةٌ علَى أنْ تُقَدِّمَ لِلْجَميع، وَبِخاصّةٍ لِلْشَباب- وَهُم كُثْرٌ في هذا البَلَد -، الأمَلَ في مُسْتَقْبَلٍ أفضَل».
وتابع البابا: «أَتَيْتُ بِصَفَةِ تائِبٍ يَطْلُبُ المَغْفِرَةَ مِنَ السَماءِ وَمِنَ الإخْوَة، لِلْدَمارِ الكثيرِ وَقَسْوَةِ البَشَر. أَتَيْتُ حاجًّا يَحْمِلُ السَّلام، باسْمِ السَيِّدِ المَسيحِ أميرِ السَّلام. كَمْ صَلَّيْنا في هذهِ السِنين مِن أجلِ السَّلامِ في العِراق! لَمْ يُوَفِّرْ البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني المُبادَرات، ولا سِيَّما الصَّلَوات والآلام مِن أجلِ السَّلام. واللهُ يُصْغِي، إنَّهُ يُصْغِي دائِمًا! عَلَيْنا نَحنُ أنْ نُصْغِيَ إليْه، وأنْ نَسيرَ في طُرُقِه. لِتَصْمُتْ الأَسْلِحَة! وَلْنَضَعْ حدًّا لانْتِشارِها هُنا وَفي كُلِّ مكان! وَلْتَتَوَقَّفْ المَصالِحُ الخاصَّة، المَصَالِحُ الخارِجيَّة التي لا تَهْتَمُ بالسُكانِ المَحَلّيين. ولْنَسْتَمِعْ لِمَنْ يَبْني ويَصْنَعُ السَّلام! لِلْصِغارِ والفُقَراء، وَلِلْبُسَطاءِ الذينَ يُريدونَ أنْ يَعيشوا وَيَعْمَلُوا وَيُصَلُّوا في سلام. كَفَى عُنْفاً وَتَطَرُّفاً وَتَحَزُّبَات وَعَدَمُ تَسَامُح! لنُعْطِ المَجالَ لكُلِّ المُواطِنينَ الذينَ يُريدونَ أنْ يَبْنُوا مَعًا هذا البَلَد، في الحِوار، وفي مُواجَهَةٍ صَريحَةٍ وَصَادِقَةٍ وَبَنَّاءَة. لِنُعْطِ المَجالَ لِمَنْ يَلْتَزِمُ السَّعْيَ مِن أجلِ المُصَالَحَة، والخَيْرِ العام، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ أنْ يَضَعَ مَصَالِحَهُ جانِبًا. حاوَلَ العِراق، في هَذِهِ السَنوات، إرْساءَ الأسُسِ لِمُجْتَمَعٍ ديمُوقْراطي. مِن أجلِ هذا، مِنَ الضَّرُوري أنْ نَضْمَنَ مُشارَكَةَ جَميعِ الفِئاتِ السِياسيَّةِ والاجتِماعيَّةِ والدينيَّة، وأنْ نُؤَمِّنَ الحُقوقَ الأساسِيَّةَ لِجَميعِ المُواطنين. يَجِبُ ألّا يُعْتَبَرَ أحَدٌ مُواطِنًا مِنَ الدَرَجَةِ الثانِيَّة. أُشَجِّعُ الخُطُواتِ التي تَمَّ اتِخاذُها حتَى الآن في هذا الاتِجاه، وَأَرْجُو أنْ تَتَعَزَّزَ الطُمأْنينَةُ والوِئام».
وطالب البابا المجتمع الدولي أيْضًا أنْ يَقومَ بِدَوْرٍ حاسِمٍ في تَعزيزِ السَّلامِ في هذهِ الأرضِ وَفي كُلِّ الشَّرْقِ الأوْسَط. رأَيْنا ذَلِكَ في الصِّراعِ الطَويلِ في سوريا المُجاوِرَة – وَقَدْ مَرَّتْ الآنَ عَشْرُ سَنَواتٍ علَى بِدايَتِه! – إنَّ التَحَدِيّاتِ المُتَزايِدة تَدْعُو الأُسْرَةَ البَشَرِيَّةَ بأَكْمَلِها دَعْوَةً مُلِحَّة. إنَّها تَقْتَضِي تَعاوُنًا علَى نِطاقٍ عالَمِيّ حتَى تُواجِهَ أيْضًا عَدَمَ المُساواةِ في مَجالِ الاقتِصاد، والتَوَتُراتِ الإقليميَّة التي تُهَدِّدُ اسْتِقرارَ هَذِهِ البُلْدان. أَشْكُرُ الدُوَلَ والمُنَظَماتِ الدَوْلِيَّة التي تَعْمَلُ الآنَ في العِراق لإعادَةِ الإعْمار وَتَقْديمِ المُساعَدَةِ لِلاجِئينَ والنازحين، وَللَذينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِم العَوْدَةُ إلى بيوتِهِم، وَلأَنَّها تُوَفِّرُ الغِذاءَ والماءَ والمأوَى والخَدَماتِ الصِحِيَّة في البَلَد، وَكَذَلِكَ البَرامِجَ الهادِفَة إلى المُصَالَحَةِ وَبِناءِ السَّلام».
وأكّد أنّ «الدينُ بِطَبيعَتِهِ، يَجِبُ أنْ يكونَ في خِدْمَةِ السَّلامِ والأُخُوَّة. لا يَجُوزُ استِخْدامُ اسمِ اللهِ «لتَبْريرِ أَعْمالِ القَتْلِ والتَشْريدِ والإرْهابِ والبَطْش». على العَكْسِ مِن ذَلِك، إنَّ اللهَ الذي خَلَقَ البَشَرَ مُتَساوينَ في الكَرامَةِ والحُقوق،، يَدْعُونا إلى أنْ نَنْشُرَ المَحَبَّةَ والإحْسانَ والوِئام. وَفي العِراقِ أيضًا، تُريدُ الكَنيسَةُ الكاثوليكيَّة أنْ تَكونَ صَديقَةً لِلْجَميع، وأنْ تَتَعاوَنَ مِن خِلالِ الحِوار، بِشَكْلٍ بَنّاءٍ مَعَ الأدْيانِ الأُخْرَى، مِن أجلِ قَضِيَّةِ السَّلام. إنَّ وُجودَ المَسيحيّينَ العَريق في هذهِ الأرْضِ وإسْهامَهُم في حَياةِ البَلَدِ يُشَكِّلُ إرْثًا غَنِيًّا، ويُريدُ أنْ يكونَ قادِرًا على الاسْتِمْرارِ في خِدْمَةِ الجَميع. إنَّ مُشارَكَتَهُم في الحياةِ العامّة، كمُواطِنين يَتَمَتَعُونَ بِصُورَةٍ كامِلة بالحُقُوقِ والحُرِياتِ والمَسْؤُوليات، سَتَشْهَدُ علَى أنَّ التَعَدُدِيَّةَ الدينيَّةَ والعِرْقِيَّةَ والثَقافيَّةَ السَليمَة، يُمْكِنُ أنْ تُسْهِمَ في ازدِهارِ البَلَدِ وانْسِجامِه».
وكان توقّف البابا فرنسيس قبل إلقاء كلمته أمام لوحة فنيّة ملفتة على شكل ميدالية فضيّة للنبي إبراهيم وهو يُغادر مدينة أور مسقط رأسه، وخلفه خريطة العراق مع نخلة مثمرة باسقة، ستبقى تذكاراً من زيارة قداسته يوضع في متحف الدولة العراقية.
لقاء كاتدرائية سيّدة النجاة
ثمّ انتقل البابا فرنسيس الى كاتدرائية سيّدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد التي تعرّضت في العام 2010 لهجوم مسلّح أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من المصلّين المسيحيين، حيث التقى مع عدد من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والإكليريكيين وأساتذة التعليم المسيحي. وألقى كلمة قال فيها: «نَجْتَمِعُ اليومَ في كاتدرائِيَّةِ سَيِّدَةِ النَجاة هذِه، وَنَتَبَارَكُ فيها بِدِماءِ إخوَتِنا وأَخَواتِنا الذينَ دَفَعُوا هُنا ثَمَنَ أَمانَتِهِم للرَّبِّ وَلِكَنِيسَتِه، ثَمَنًا غاليًا. أَرْجُو أنْ تُلْهِمَنا ذِكْرَى تَضْحِيَتِهِم بأنْ نُجَدِّدَ ثِقَتَنا بِقُوَّةِ الصَّليبِ وَرِسالَتِهِ الخَلاصِيَّة للمَغْفِرَةِ والمُصالحَةِ والولادَةِ الجَديدة. فَفي الواقِع، المَسيحيُّ مَدْعُوٌ لِلْشَهادَةِ لِمَحَبَّةِ المَسيح في كلِّ مكانٍ وَزَمان. هذا هو الإنجِيلُ الذي يَجِبُ إعْلانُهُ وَتَجْسيدُهُ في هذا البَلَدِ الحَبيبِ أيضًا».
أضاف: «وأنتُم، بِصِفَتِكُم أساقِفَةً وَكَهَنَةً، وَرُهبانًا وَراهِباتٍ، وَمُعَلِّمي التَعليمِ المَسِيحيّ، وَمَسْؤُولين عِلمانيِّين، إنَّكُم جَميعًا تُشارِكونَ في أفراحِ المُؤْمِنينَ وآلامِهِم وآمالِهِم وهُمُومِهِم. لَقَدْ ازْدادَت احتِياجاتُ شَعْبِ اللهِ والتَحَدِّياتُ الرَعَوِيَّة الشاقَّة التي تُواجِهُونَها يَوْمِيًا في زَمَنِ الجائِحَةِ هذا. وَمَعَ ذَلِك، فإنَّ الغَيْرَةَ الرَسُولِيَّة يَجِبُ ألَّا تَتَوَقَّفَ ولا تَنْقُصَ أبَدًا، والتي تَسْتَمِدُونَها مِن جُذورٍ قَدِيمَةٍ جِدًا، مِنَ الحُضُورِ المُسْتَمِرِ لِلْكَنيسَةِ في هذهِ الأراضي مُنْذُ الأزمِنَةِ الأوْلَى. نَحْنُ نَعْلَمُ كَمْ هو سَهْلٌ أنْ نُصابَ بِفيرُوسِ الإحْباطِ الذي يَبْدُو أحْيانًا أنَّهُ يَنْتَشِرُ مِن حَوْلِنا. مَعَ ذَلِك، لَقَدْ مَنَحَنا اللهُ لُقاحًا فَعَّالًا ضِدَّ هذا الفِيروس الخَبيث: وَهو الرَجاءُ الذي يَنْبُعُ مِنَ المُثابَرَةِ علَى الصَّلاةِ والأمانَةِ اليَوْمِيَّة لِرِسالَتِنا. بِهذا اللُقاح، يُمْكِنُنا المُضِيُّ قُدُمًا بِقُوَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ دائِمًا، لِكَي نُشارِكَ فَرَحَ الإنجِيل، كَتلامِيذَ مُرْسَلِينَ وَعلاماتٍ حَيَّةٍ لِحُضورِ مَلَكُوتِ الله، مَلَكُوتِ قَداسَةٍ وَعَدْلٍ وَسَلام».
تابع: َ»كَمْ يَحْتاجُ العَالَمُ مِن حَوْلِنا إلى سَماعِ هذهِ الرِسالَة! ولا تَنْسَوْا أبَدًا أنَّ البِشارةَ بالمَسِيحِ تَتِمُّ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ مِن خِلالِ شَهادَةِ حَياةٍ غيَّرَها فَرَحُ الإنجيل. كما نَرَى مِن تاريخِ الكَنيسَةِ القَديمِ في هذهِ الأراضي، الإيمانُ الحَيُّ بالرَّبِّ يسوع «يُعْدِي»، وَيَسْتَطيعُ أنْ يُغَيِّرَ العالَم. وُيُبَيِّنُ لَنا مِثالُ القِدِّيسين أنَّ اتّباعَ يسوعَ المسيح «ليسَ فقط أمْرًا حَقًّا وَعَدْلًا، بَلْ هو أيضًا شيءٌ جَميل، وَقادِرٌ أنْ يَمْلأَ الحَياةَ بِبَهاءٍ جَديدٍ وَفَرَحٍ عَميق، حتَى في وَسَطِ الشَدائِد».
وقال:»إنَّ الصِّعابَ جُزْءٌ مِن حَياتِكُم اليَوْمِيَّة، أنتُمُ المُؤْمِنينَ العِراقيِّين. فَقَدْ كانَ عَلَيْكُم وَعَلَى مُواطِنِيكُم، في العُقُودِ الأخِيرَة، أنْ تُواجِهُوا عَواقِبَ الحَرْبِ والاضْطِهاد، وَهَشاشَةَ البِنَى التَحْتِيَّةِ الأساسِيَّة، وأنْ تُناضِلُوا باسْتِمرار، مِن أجلِ الأمْنِ الاقتِصاديِّ والشَخْصيّ، والذي غالِبًا ما أدَّى إلى نُزُوحٍ داخِلِيّ وِهِجْرَةِ الكَثيرين، بِما في ذَلِكَ بَيْنَ المَسِيحِيِّين، إلى بُلْدانٍ أُخرَى في العالَم. إنِّي أَشْكُرُكُم، أيُّها الإخوَةُ الأساقِفَةُ والكَهَنَة، علَى بَقائِكُم قَريبينَ مِن شعبكم.. وإنِّي أُشَجِّعُكُم علَى المُثابَرَةِ في هذا الاجتِهاد، مِن أجلِ أنْ تَتَمَكَّنَ الجَماعَةُ الكاثُولِيكِيَّة في العِراق، وإنْ كانَتْ صَغيرةً مِثْلَ حَبَّةِ الخَرْدَل، مِنَ الاستِمرارِ في إثراءِ مَسيرَةِ البَلَدِ بِأَكْمَلِه».
وأضاف قداسته: «إنَّ مَحَبَّةَ المَسيحِ تَطْلُبُ مِنّا أنْ نَضَعَ جانِبًا كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الأنانيَّةِ وَكُلَّ مُنافَسَة، وَتَحُثُّنا علَى أنْ نَكونَ في شَرِكَةٍ شامِلَةٍ، وَتَدْعُونا إلى أنْ نُكَوِّنَ جَماعَةً الكُلُّ فيها إِخوَةٌ وأخَواتٌ يُرَحِبُونَ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ وَيَهْتَمُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض.. كم هي مُهِمَّةٌ شَهادَةُ الوَحْدَةِ الأَخَوِيَّةِ هذِه، في عالَمٍ غالِبًا ما تُمَّزِقُهُ الانقِسامات! إنَّ كُلَّ جُهْدٍ يُبْذَلُ لبِناءِ الجُسُورِ بَيْنَ الجَماعاتِ والمُؤَسَّساتِ الكَنَسِيَّة والرَعَوِيَّة والأبْرَشِيَّة سَيَكُونُ بادِرَةً نَبَوِيَّةً في كَنيسَةِ العِراق واستِجابَةً مُثْمِرَةً لِصَلاةِ يسوع بأنْ يَكُونُوا جَمِيعُهُم واحِدًا».
وختم: «أَوَدُّ أنْ أَعُودَ الآن إلى إخوَتِنا وأخَواتِنا الذينَ لَقُوا حَتْفَهُم في الهُجُومِ الإرْهابي علَى هذهِ الكاتِدرائِيَّةِ قَبْلَ عَشْرِ سَنَوات، والذينَ ما زالَتْ دَعْوَى تَطْويبِهِم مَفتُوحَة. يُذَكِّرُنا مَوْتُهُم جَيِّدًا أنَّ التَحْريضَ علَى الحَرْبِ وَمَواقِفَ الكَراهِيَةِ والعُنْفِ وإراقَةِ الدِماء لا تَتَّفِقُ مَعَ التَعاليمِ. وَأُريدُ أنْ أَذْكُرَ كُلَّ ضَحايا العُنْفِ والاضطِهادِ المُنْتَمينَ إلى مُخْتَلَفِ الجَماعاتِ الدِينِيَّة. وأُريدُ في هذا المَساء أنْ أَشْكُرَكُم علَى اجتِهادِكُم لأنْ تَكُونوا صانِعِي سَلام، داخِلَ جَماعاتِكُم وَمَعَ مُؤْمِني التَقاليدِ الدينيَّةِ الأخرى، وأنْ تَزْرَعُوا بُذُورَ المُصَالَحَةِ والعَيْشِ الأَخَويِّ مَعًا، التي تَسْتَطيعُ أنْ تَقُودَ إلى وِلادَةِ رَجاءٍ جَديدٍ لِلْجَميع. وأُفَكِرُ بِشَكْلٍ خاص في الشَّباب: حَيْثُما كانوا، هُم حامِلُو وَعْدٍ وَرَجاء، وَبِخاصَةٍ في هذا البَلَد. في الواقِع، لا يُوجَدُ هُنا تُراثٌ أثَريٌ لا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ فَحَسْب، بَلْ كَذَلِكَ ثَرْوَةٌ كَبيرَةٌ لِلْمُسْتَقْبَل: إنَّهُم الشَّباب! هُم كَنْزُكُم وَيَنْبَغي الاعتِناءُ بِهِم، وَتَغْذِيَةُ أحلامِهِم، وَمُرافَقَةُ مَسيرَتِهِم، وَتَنْمَيَّةُ رَجائِهِم. وَعَلَى الرَّغْمِ مِن صِغَرِ سِنِّهِم، فَقَدْ تَعَرَّضَ صَبْرُهُم بالفِعْلِ لامْتِحانٍ قاسٍ بِسَبَبِ صِراعاتِ هَذهِ السّنوات. ولْنَتَذَكَّرْ في الوقتِ عَيْنِه، أنَّهُم – مَعَ كِبارِ السِّن – جَوْهَرَةُ هذا البَلَد، وأَلَذُ ثِمارِ أشْجارِه: عَلَيْنا تَقَعُ مَسْؤُولِيَّةُ زِراعَةِ الخَيْرِ فيهِم وإرواءِ رَجائِهِم».
وبعد أن جرى تبادل الهدايا التذكارية، توجّه البابا فرنسيس الى مكان إقامته في السفارة البابويّة في بغداد.
برنامج الزيارة اليوم وغداً
هذا ومن المقرّر أن يزور الأب الأقدس في اليوم الثاني من زيارته الى العراق اليوم السبت مدينة أور الأثريّة (في محافظة ذي قار) التي انتقل منها أب المؤمنين إبراهيم الى أرض الميعاد، ثمّ يتوجّه الى النجف للقاء سماحة آية الله العظمى السيّد علي السيستاني. على أن يحتفل عصراً بالقدّاس الإلهي في كاتدرائية «مار يوسف» للكلدان بعد لقاء مع مسؤولي الجماعات الدينية.
على أن يتوجّه الحبر الأعظم يوم غدٍ الأحد في 7 الجاري في اليوم الثالث من زيارته، من بغداد الى إربيل حيث سيلتقي في قاعة الشرف الرئاسية في مطار إربيل بالسلطات الدينية والحكومية في إقليم كردستان العراق، ويلتقي مع رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني. ثمّ يتوجّه الى الموصل حيث سيتوقّف في «حوش البيعة» (في ساحة الكنيسة) الذي يضمّ 4 كنائس مدمّرة نتيجة الحرب، للصلاة عن راحة نفوس ضحايا الحرب، قبل أن ينتقل الى كنيسة مريم «الطاهرة» في قره قوش (أو بغديدا كما يُسمّيها أهلها) في سهل نينوى حيث سيتلو صلاة التبشير الملائكي مع المؤمنين. على أن يعود الى إربيل حيث سيحتفل عصر الأحد بالقدّاس الإلهي في ملعب «فرنسوا الحريري» (في عينكاوة).
أما يوم الاثنين الموافق الثامن من آذار فسيتوجّه البابا فرنسيس صباحاً إلى مطار بغداد الدولي حيث ستتمُّ مراسم الوداع الرسمي قبل أن يغادر البابا العراق عائدا إلى إيطاليا.