شارل جبور-الجمهورية
هل يمكن حلّ الأزمة اللبنانية بمعزل عن التسوية الدولية وتحديداً الأميركية مع إيران؟ وهل ستقبل طهران بأي تنازل في لبنان يتعلق بسلاح «حزب الله» ودوره قبل ان تقبض ثمن هذا التنازل؟ وهل تنجح بكركي في فصل الأزمة اللبنانية عن أزمة المنطقة، أم ينجح «حزب الله» في إزالة العوائق من أمام تشكيل الحكومة بما يتيح له إبقاء الربط بين أزمة لبنان وأزمة المنطقة قائماً؟
السباق على أشدّه بين توجّهين: التوجّه القائل بالتدويل كمخرج وحيد من الأزمة التي لم يعد من فائدة بمعالجتها بالمسكنات وعلى القطعة، خصوصاً بعد انهيار كل شيء ووصول البلد إلى حافة الإنفجار، فيما المصلحة الوطنية العليا تستدعي، كما قال البطريرك بشارة الراعي، عقد مؤتمر دولي لإخراج لبنان من تعثره، لأنّ اتفاق الطائف أنهى الحرب، ولكن محور الممانعة بشقيه السوري والإيراني لم يسمحا بتطبيقه، وبالتالي حان الوقت للشروع في تطبيق الدستور من أجل قيام الدولة التي من دونها لا استقرار ولا ازدهار.
التوجّه الثاني أولويته الحفاظ على الستاتيكو الحالي بأي ثمن، وهو على استعداد للقيام بأي شيء يُمّكِّنه من ذلك من أجل مواصلة الإمساك بمفاصل السلطة، وبالتالي لن يسمح بالتدويل ولا بالانتخابات النيابية المبكّرة ولا حتى، ربما، الانتخابات في موعدها، ومن مصلحته القصوى ان تتشكّل الحكومة لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأوّل لتنفيس الاحتقان في الشارع من منطلق انّ أي حكومة ستُعطى فرصة سماح من الداخل والخارج، والأهم انّ مجرّد تشكيل الحكومة سيفرمل الانهيار، ولو بشكل مؤقت، لاعتبارات نفسية أكثر منها واقعية، وقد تفتح الباب أمام فرصة لا يمكن الجزم بنتائجها والتي بالحدّ الأدنى تُبقي الوضع مستقراً، فيما عدم التأليف ينقل لبنان تلقائياً من الانهيار إلى الانفجار، ولذلك، أصبح التأليف حتمياً.
السبب الثاني لتنفيس مبادرة البطريرك بعنوان عقد مؤتمر دولي، لأنّ أي مؤتمر من هذا النوع سيضع سلاح «حزب الله» ودوره على الطاولة، ويستحيل تنفيس مبادرة البطريرك دولياً سوى عن طريق تشكيل حكومة، لأنّ استمرار الفراغ القائم والانهيار المالي والمجاعة المتمدّدة والمخاوف من الانفجار الاجتماعي، كلها عناصر تشجِّع المجتمع الدولي على فصل الأزمة اللبنانية عن أزمة المنطقة تجنّباً لانزلاق لبنان إلى فوضى وحرب تؤثر على دول الجوار ويصبح من الصعب معها الوصول إلى تسوية، فيما تشكيل الحكومة لا يجعل من لبنان أولوية دولية، كما انّ الحكومة العتيدة ستُمنح فرصة دولية.
وفي هذا السياق، يكفي التوقُّف أمام عاملين يؤشران إلى براغماتية الخارج واستسهاله دعم تأليف الحكومة على دعم الانتخابات المبكرة مثلاً او المؤتمر الدولي: الأول عربي – مصري مع دعوة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط في كلمته خلال اجتماع مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة اللبنانيين إلى «الإسراع بالوصول إلى التوافق المطلوب من أجل تشكيل حكومة كفاءات تُمثل المخرج الوحيد للبنان من أزمته التي اشتدت وطأتها على الشعب».
والعامل الثاني فرنسي بامتياز، مع انتظار باريس تأليف الحكومة لتدخل على الخط اللبناني مجدداً، وقد يزور رئيسها ماكرون لبنان ويعيد وضعه على جدول أولوياته الخارجية.
فمبادرة البطريرك التدويلية، بالنسبة إلى «حزب الله»، بحاجة لـ»مومنتم» داخلي وخارجي، ويكفي تعطيل الـ»مومنتم» الداخلي عن طريق تشكيل الحكومة لتعطيل الـ»مومنتم» الخارجي، خصوصاً انّ الخارج منشغل بأولوياته وغير مستعجل لحلّ الأزمة اللبنانية قبل حلّ أزمة المنطقة إلّا في حال استدعت التطورات اللبنانية الدراماتيكية ذلك، وهذا تحديداً ما يريد الحزب تجنّبه من خلال تأليف الحكومة.
السبب الثالث لمنع فصل الأزمة اللبنانية عن أزمة المنطقة، لأنّ طهران تنظر إلى لبنان كورقة مهمة وأساسية من أوراقها التفاوضية في سوريا والعراق واليمن، وبالتالي أي تنازل ستُقدم عليه يكون ضمن صفقة متكاملة «باكيدج ديل»، ولن تفرِّط مجاناً لا بورقة «حزب الله» التي تضعها على حدود إسرائيل وفي قلب الصراع مع تل أبيب، ولا بورقة الحوثيين الذين تهدّد عبرهم أمن المملكة العربية السعودية، ولا عمقها الشيعي في العراق الذي يشكّل امتداداً طبيعياً لها، ولا الورقة السورية على رغم تراجع دورها في سوريا لمصلحة موسكو.
فللأسباب الثلاثة مجتمعة (الإنفجار المجتمعي، التدويل، فصل لبنان) سيضع «حزب الله» ومن خلفه طهران كل ثقله لتأليف الحكومة تجنباً للانفجار الذي أصبح حتمياً في حال لم تتشكّل الحكومة، خصوصاً انّ هذا الانفجار يمكن ان يقود إلى تدويل الأزمة اللبنانية وفصلها عن أزمة المنطقة، وهو لا يقلّل من قدرة بكركي وخلفها الفاتيكان وتأثيره المعنوي الكبير على عواصم القرار، حيث انّ انزلاق الوضع اللبناني إلى الفوضى الشاملة يمنح عاصمة الكثلكة ورقة ضغط على المجتمع الدولي لحلّ الأزمة اللبنانية بمعزل عن الأزمات الأخرى، فيما سيكون من الصعب على الفاتيكان وضع لبنان على رأس قائمة الاهتمامات الدولية في حال كان الوضع مستقراً داخله، لأنّ مسألة فصله عن طهران صعبة ومعقّدة ولن تتهاون الأخيرة مع هذا الأمر.
فربط لبنان بإيران يرتقي إلى مصاف الأهداف الإيرانية الاستراتيجية، ولن يكون من السهولة بمكان فك هذا الربط على غرار ما حصل مع النظام السوري في العام 2005، عندما كان قرار بيروت في دمشق، لأنّ طهران اتعظت من هذه التجربة، ولأنّ خروج الجيش السوري من بلاد الأرز لم يبدِّل في التموضع الاستراتيجي للبنان، بل كان مجرد سقوط أحد الخطوط الدفاعية الأمامية، فيما الخط الأساسي المتمثل بـ»حزب الله» وعمقه الإيراني هو خط الدفاع الأخير الذي لن تفرِّط به بتقديم ذرائع لبنانية تسمح بتدويل لبنان، لأنّه لن يكون بإمكان طهران مواجهة المجتمع الدولي في حال قرّر فك لبنان وفصله عنها، ولذلك، ستبقيه ضمن حالة «لا معلّق ولا مطلّق»، أي من خلال الحفاظ على الستاتيكو الراهن.
فهدف «حزب الله» ومن خلفه طهران، شراء الوقت لبنانياً بانتظار جلوس الأخيرة على طاولة المفاوضات الدولية، وشراء الوقت يستدعي تأليف حكومة من أجل إبقاء لبنان ضمن المرحلة الانتقالية التي دخلت فيها المنطقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، بانتظار ان تبلور الأخيرة رؤيتها وخطتها الشرق أوسطية. ولا شك انّه بين موقف النائب السابق وليد جنبلاط، الذي وافق على توسيع الحكومة انسجاماً مع مبادرة السيد حسن نصرالله، وبين الكلام المنقول عن الرئيس ميشال عون بأنّه وافق على التخلّي عن الثلث المعطل، انسجاماً أيضاً مع الشق الثاني من مبادرة نصرالله، فيكون ملف التأليف قد تحرّك بقوة على هذا المستوى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تجاوب عون وجنبلاط مع مبادرة نصرالله بتوسيع الحكومة والتخلّي عن الثلث سيفتح باب التأليف هذه المرة، أم انّ المواجهة المفتوحة بين الحريري والنائب جبران باسيل ستطيح هذه المحاولة، أم انّ دقة الوضع التدويلي والاجتماعي ستدفع باتجاه التأليف سريعاً؟
وفي المفاصل الأساسية والاستراتيجية، لا يترك «حزب الله» القرار في يد حليفه العهد الذي حدود دوره لا يتجاوز السلطة، وهذا ما يفسِّر إمساكه العصا من وسطها بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، لأنّه يدرك انّ ترك الوضع على همّة حليفه يقود إلى إسقاط الستاتيكو كما أسقطه عندما أعلن «حرب التحرير» في العام 1989، وسقوط هذا الستاتيكو اليوم يشكّل نكسة كبرى للمشروع الإيراني في لبنان، وهذا ما يفسِّر حرصه على تأليف حكومة ورفض التدويل والانتخابات المبكرة.
وإذا كان قد نجح البطريرك بربط نزاع مع المجتمع الدولي حول القضية اللبنانية، إلّا انّ السؤال الأساس يكمن في الآتي: هل سيتمكن من فصل أزمة لبنان عن أزمة المنطقة، وكيف؟ وماذا لو استمرت المراوحة الأميركية-الإيرانية، واستمرت معها المرحلة الانتقالية في لبنان والمستفيد منها طبعاً «حزب الله»؟ ومن يضمن عدم تقديم تنازلات على طاولة مفاوضات تبحث فيها إيران كل أوراقها؟ وما السبيل لفك لبنان عن أزمة المنطقة، قطعاً للطريق على أي مقايضات محتملة، واختصاراً لمعاناة اللبنانيين؟