بين النظام الإيراني بكل مستوياته والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد علاقة من نوع خاص، لا هي ود وانسجام، ولا عداء واضح، علاقة مليئة بالتناقضات، لا يمكن إدراك كنه تعقيدها أو معرفة عمق خلفياتها ببساطة من خلال ما يطفو منها على سطح التصريحات والمواقف السياسية والعراضات الإعلامية والتعريض المباشر وغير المباشر، فالنظام بمؤسساته التي تقع خارج الدولة غير قادر على الذهاب إلى النهاية في وضع حد لتصرفات أحمدي نجاد واستعراضاته، لأن رجالات النظام يعرفون جيداً، إن عبر أحمدي نجاد مباشرة أو عبر الإيحاءات الكثيرة التي لجأ إليها في السنتين الأخيرتين من رئاسته بين عامي 2011 و2013، أنه يمتلك كثيراً من الملفات المخبأة التي تكشف حجم تورطهم في عمليات الفساد والامتيازات والمحاصصة، وسبق له أن استحوذ عليها خلال توليه شخصياً تصريف الأعمال في وزارة الأمن والاستخبارات بعدما أقال وزيرها حيدر مصلحي في تحد لإرادة المرشد الأعلى الذي اضطر إلى التدخل مباشرة وفرض إعادة الوزير إلى موقعه، وما نتج من ذلك من اعتكاف الرئيس عشرة أيام اعتراضاً على هذا التدخل.
كذلك أحمدي نجاد، غير قادر على رفع مستوى التصادم مع النظام، لأنه وبكثير من البراغماتية يعرف أن طريق عودته إلى الحياة السياسية ومواقع السلطة رهن بقرار أجهزة النظام وقبلها المرشد الأعلى، خصوصاً إذا ما أراد تجاوز سد مقصلة مجلس صيانة الدستور الذي يمسك بيد من حديد بطرف الحبل الذي يتحكم بأهلية المرشحين أو الذين يسمح لهم بدخول فردوس السلطة والعملية الانتخابية، خصوصاً أنه قد عاين التجربة بنفسه قبل أربع سنوات عندما رفض هذا المجلس تأييد أهليته لخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة حسن روحاني في دورته الثانية.
كثيرة هي الأوراق التي يمتلكها أحمدي نجاد، التي تسمح له بالذهاب إلى النهاية في إحراج النظام ومؤسساته وأجهزته، وهي التي تسمح له بلعبة التحدي التي يمارسها في هذه الأيام، وقد توّجها بالتسجيل المصور الأخير الذي يتحدث فيه عن إمكانية أن تغتاله الأجهزة الأمنية، ومن ثم “يسيرون في الجنازة” ويتهمون أو يفتشون عن طرف لاتهامه بالاغتيال، وأرفق هذا التحدي بآخر أخطر وأكثر جرأة، إذ تحدث عن امتلاكه وثائق ومستندات عن هذا الاغتيال، إلى جانب “عمل” بعض الأشخاص استطاع استنساخها وإيداعها في أكثر من مكان آمن لا تستخدم إلا بعد أن يتعرض للأذى، وهي رواية تستدعي من الذاكرة روايته عن محاولة القوات الأميركية خطفه خلال زيارته العراق في يوليو (تموز) 2013.
خروج أحمدي نجاد عن حدود دهائه قد يكون صادراً عن واحد من سببين، إما أنه تبلّغ بشكل رسمي من مستويات عليا في النظام ألا مكان له في السباق الرئاسي، خصوصاً بعد ما صدر عن رئيس البرلمان الأسبق غلامعلي حداد عادل المقرب من المرشد، ووالد زوجة نجله مجتبى الذي أكد أن أحمدي نجاد لن يحصل على موافقة مجلس صيانة الدستور لخوض الانتخابات الرئاسية، وإما أنه قد أمسك بنبض الشارع الذي يقف على الجهة المقابلة في معارضته النظام، وهو الشارع المستقطب باتجاه أي جهة أو شخصية تمتلك الجرأة في مهاجمة النظام وقيادته ووضعهما أمام أسئلة محرجة وحقيقية، ما يسمح له بأن يكرّس زعامته الشعبية من خارج الأطر المؤسساتية في حال منع من العودة إلى العملية السياسية، وأن يتحول إلى زعامة وقيادة حقيقية من خارج السلطة بما يتوافق مع الرؤية التي ضمّنها الرسالة التي وجهها إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ربيع السنة الماضية، واستعادها في الأيام الماضية لمجرد التنكيل برئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف بعد رفض بوتين استقباله على الرغم من أنه يحمل رسالة خاصة من المرشد الأعلى وصفت بأنها استراتيجية ومفصلية. وهي استعادة جاءت بعد الكشف عن الرسالة المطولة التي وجهها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن لمناسبة توليه السلطة، والتي تندرج في سياق نفسي خاص به يقوم على مبدأ الإدهاش بحده الأعلى من خلال كسر المحرمات والذهاب إلى المنطقة التي تتعارض مع سياسات النظام وتحرجه بشكل واضح، كما فعل في رسائل سابقة وجهها إلى الرئيسين الأميركيين السابقين جورج دبليو بوش وباراك أوباما والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهي تصرفات حاول المعترضون عليها من إصلاحيين ومحافظين وضعها في إطار المساعي التي يبذلها أحمدي نجاد لتأكيد بقائه في الحياة السياسية.
بين الواقع والخيال، لا شك في أن أحمدي نجاد استطاع توظيف النقمة الشعبية على القوى السياسية الإصلاحية والمحافظة وقيادة النظام بسبب فشلها في إدارة البلاد وتحويل النظام إلى ديكتاتورية تحدث عنها في رسالته إلى بوتين، واستطاع أيضاً توظيف ذلك في تعزيز مواقعه لدى الطبقة الشعبية المأخوذة بخطابه الشعبوي وسياساته الاقتصادية الرعوية التي اعتمدت على تقديم مساعدات مباشرة على حساب الخطط التنموية المدروسة، ما سمح له بإحراج النظام والسلطة لأنه استطاع أن يكون أحد المنافسين الحقيقيين في السباق الرئاسي، وأن يحصل على قسم يعتد به من الكتل البشرية المؤيدة للنظام والمعسكر المحافظ، وأن تكون له حصة داخل الكتلة المعترضة، ليس حباً به أو تأييداً لسياساته، بل لكونه الأقدر على خلخلة جدران النظام الذي أنتجه وفرضه داخل المعادلات السياسية الإيرانية.
أسئلة كثيرة تدور حول القدرات المالية التي يعتمد عليها أحمدي نجاد في معركة السياسية والانتخابية، والإجابة عنها تكمن في ما يحكى كثيراً عن عمليات فساد كبيرة وهدر واسع للأموال حدثت في سنوات توليه منصب رئاسة الجمهورية، وأن المبالغ المتأتية من ارتفاع أسعار النقط التي تراوح بين 700 و800 مليار دولار بحسب اختلاف التقديرات، لم يتبقَّ منها للرئيس التالي، روحاني، سوى النذر اليسير الذي لا يستطيع معالجة جزء لمعضلة واحدة من التي ورثها من سلفه الذي حوّل الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد استهلاكي وريعي بامتياز على حساب الإنتاج المحلي في مختلف الصعد، وقد أدى تدخل المرشد الأعلى لمصلحته وقوله بوضوح إن “سياسة أحمدي نجاد الاقتصادية هي أقرب إلى تفكيره ومنهجه من أي شخص آخر حتى من الشيخ (علي أكبر هاشمي) رفسنجاني”، إلى قمع الأصوات التي تعالت حينها محذرة من تداعيات السياسات الاقتصادية والمالية التي يتبناها أحمدي نجاد، ولم تستطع تلك الأصوات المعترضة الحؤول دون قرار أحمدي نجاد بإلغاء مؤسسة التخطيط والموازنة التي تعتبر من المؤسسات العريقة وهي من عمر الدولة الحديثة في إيران، ولم يستطع البرلمان مساءلته عن مليار دولار من حساب وزارة النفط لم يصل إلى خزانة الدولة، وضاع في الطريق.
هذه السياسات المالية والاقتصادية وعمليات الفساد التي عمد إلى تغطيتها بصفقات عقدتها حكوماته مع مؤسسات اقتصادية تابعة للنظام وحرس الثورة، سمحت له أن يكون شريكاً في المغانم من دون أن يكون لديه أي خوف من المساءلة، وأن يوظف هذه العائدات في عملية بناء شبكة من الموظفين والإداريين الموالين أو المؤيدين له يشكلون جسر التواصل مع القواعد الشعبية، انتجت كتلة نيابية وازنة في البرلمان الحالي الذي يسيطر عليه المعسكر المحافظ بالكامل، وأن يخترق مفاصل مهمة في أجهزة السلطتين التشريعية والتنفيذية بحيث استخدمها ويستخدمها حالياً لإعادة فرض نفسه على المعادلات السياسية والانتخابية التي إن لم تنجح، فإنها قد تسبب حرجاً ليس قليلاً للنظام وأجهزته، وبات في الإمكان توصيف العلاقة الجدلية بين الطرفين (النظام وأحمدي نجاد) بأنها مصداق ما قالت العرب “كالمستجير من الرمضاء بالنار”.