دوللي بشعلاني-الديار
الأولوية لمصلحة لبنان واللبنانيين… فالجوع كافر ولا يُمكن السكوت بعد الآن
قد لا تكون الشعارات التي أطلقتها الجماعات الشعبية التي تحرّكت السبت الفائت نحو بكركي فيما يتعلّق برحيل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ونزع سلاح حزب الله من دون أي مناقشة، هي جوهر مواقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. فقد اتخذ الراعي سلسلة مواقف وعلى مراحل بموازاة تفاقم الجوع والفقر والعوز ومعاناة اللبنانيين منها بشكل كبير وكتابة أحد المنتحرين بأنّ «الجوع كافر»، وعدم رغبته بالوقوف موقف المتفرّج والسكوت بعد الآن عن انهيار الوضع الإقتصادي والمالي والمعيشي في ظلّ تقاعس المسؤولين عن تحمّل مسؤولياتهم وتشكيل حكومة لإنقاذ البلد من أزماته. غير أنّ بكركي لا تُعلن عن أفكارها وطروحاتها لتقف طرفاً ضدّ طرف آخر، ولا لتكون موقع تفرقة بل موقع جامع لكلّ اللبنانيين. فما الذي أصبحت عليه العلاقة بين بكركي وحارة حريك بعد التحرّك الشعبي المؤيّد لمواقف البطريرك الراعي السبت الفائت، وبعد مطالبته بالحياد الإيجابي والتدويل؟
مصادر سياسية مطّلعة أكّدت بأنّ فشل السلطة الذريع هو الذي دفع البطريرك الراعي الى التحرّك منذ فترة للمطالبة بالحياد الناشط أوّلاً، ومن ثمّ الى عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة لحلّ الأزمة اللبنانية. غير أنّ الراعي الذي ينطلق من معاناة الناس لا يريد التصويب على أحد، سيما وأنّ بكركي «تجمع ولا تُفرّق»، وهي لن تنجرّ بالتالي لتصبح ساحة للإنقسام بين أبناء الشعب الواحد.
أمّا المواقف التي أعلن عنها البطريرك على مدى الأشهر الماضية، ودعوته الشعب الذي أمّ بكركي السبت لعدم السكوت عن جملة أمور مثل الفساد وتعدّد الولاءات وسلب الأموال والحدود السائبة وخرق الأجواء وفشل الطبقة السياسية والخيارات الخاطئة والإنحياز وفوضى التحقيق وتسييس القضاء، والسلاح غير الشرعي وغير اللبناني، وسجن الأبرياء وإطلاق المذنبين، والتوطين الفلسطيني ودمج النازحين السوريين، والإنقلاب على الدولة والنظام ومصادرة القرار الوطني، وعدم تأليف حكومة وعدم إجراء الإصلاحات ونسيان الشهداء… فكلّها عناوين مطروحة للنقاش، ولا يُشكّل سلاح حزب الله المشكلة الوحيدة والرئيسية فيها. فيما قصد بالإنقلاب على الدولة والنظام، عدم معرفة الطبقة السياسية الحاكمة كيفية تطبيق «اتفاق الطائف» بعد أن أصبح دستور البلاد منذ العام 1989 وحتى يومنا هذا.
وأشارت المصادر الى أنّ فتور العلاقة بين بكركي وحارة حريك، بدأ بعد الزيارة الشهيرة التي قام بها البطريرك الراعي (في أيّار 2014) الى القدس، والتي أكّد أنّها محض راعوية لا علاقة لها بالتطبيع، وتحوّل منذ نحو سنتين الى نوع من انقطاع التواصل بينهما. علماً بأنّ ثمّة لجنة مشتركة من الطرفين تتولّى إدارة الملف السياسي كانت تجتمع في زيارات دورية. وقد كان حزب الله يقوم بزيارات الى بكركي في المناسبات والمعايدات عن طريق وفد يرأسها رئيس المجلس السياسي السيّد ابراهيم أمين السيّد في بعض الأحيان. وكان الطرفان حريصان على استمرار التشاور والتنسيق بينهما، الى أن أظهرت زيارة القدس أنّ ثمّة اختلاف في وجهات النظر، وأنّ مقاربة بكركي لبعض الملفات الداخلية وملفات المنطقة قد تغيّرت، من وجهة نظر الحزب. وكشفت المصادر بأنّ اللجنة المشتركة نفسها قد تحادثت أخيراً فيما بينها بهدف عقد لقاءات حوارية قريباً لمناقشة العناوين المطروحة وإيجاد القواسم المشتركة.
غير أنّ الإنسجام الذي كان سائداً بين الموقعين الدينيين لم يعد قائماً كما في السابق، على ما أوضحت المصادر، إذ لطالما دافع البطريرك الراعي عن سلاح الحزب لمواجهة العدو الإسرائيلي، وتشبّث بهذا السلاح أمام دول الخارج. فيما يُطالب اليوم بنزع السلاح غير الشرعي وغير اللبناني، ولهذا لا بدّ من مناقشة هذا الأمر مع حزب الله لمعرفة ما يقصده بصراحة من مطالبته هذه لا سيما في ظلّ انتشار السلاح على الأراضي اللبنانية بين أيدي كلّ المجموعات.
وقالت المصادر نفسها بأنّ كلام مدير عام الأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم بعد زيارته الأخيرة لبكركي عن أنّ «أي شخص يريد العمل للبنان ولمصلحته يأخذ الدفع من غبطته»، وأنّ بكركي هي «موقع رجاء وعمل ومجد لبنان أُعطي لها»، فيؤكّد على أنّ بكركي هي خلافاً لما حاولت بعض الأحزاب والجماعات إظهاره خلال تحرّك السبت نحوها، لا تريد الوقوف الى جانب أحزاب معيّنة ضدّ أخرى، أو مع طرف سياسي ضدّ آخر، ولا تود بالتالي تأليب الشعب اللبناني على بعضه البعض بل هي على العكس تحرص على وحدة لبنان الوطنية.
فالبطريرك الراعي سبق وأن قام بمبادرة بهدف جمع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري في لقاء مصارحة ومصالحة يؤدّي الى تشكيل الحكومة وإنقاذ البلاد من أزماته، إلاّ أنّ تحرّكاته في هذا الإتجاه لم تلقَ آذاناً صاغية في ظلّ تشبّث كلّ فريق بموقفه. في حين يريد فعلاً تحريك الجمود السياسي الحالي والقيام بخطوة ما تجمع المسؤولين، على غرار ما حصل في الطائف ومن ثمّ في الدوحة. فهدفه الأول هو لقاء المسؤولين وتوافقهم لتشكيل حكومة إنقاذية. ولعلّ ما يُردّده الرئيس عون يومياً، وما طالب به أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله وما طرحه رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي هو جوهر ما يريده البطريرك الراعي إذا ما حسُنت النوايا لدى الجميع…
كذلك فإنّ إطلالة السيّد نصرالله الأخيرة قد حملت بداخلها مخرجاً لحلّ الأزمة، لم يتلقّفه سوى رئيس «التيّار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل الذي تحدّث عن ثقته وقبوله بما يقبل به السيد نصر الله، وروح ما يطرحه الرئيس برّي. غير أنّ الحريري لم يُحرّك ساكناً، تماماً كما فعل إزاء مبادرة الراعي، لأنّ مشكلته ليست مع الأطراف الداخلية، على ما يُحاول أن يُظهر للجميع بل مع الخارج ولا سيما مع المملكة العربية السعودية. فهو ينتظر الضوء الأخضر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي لم يأتِ حتى الساعة، والذي يمنحه الموافقة على تشكيل حكومة تشارك فيها جميع الأطراف بمن فيها حزب الله، عندها يقوم بتشكيل الحكومة في غضون دقائق.
أمّا اللجوء الى الأمم المتحدة لعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان لحلّ الأزمة فيه، فلا أحد يعلم مدى ضمانته بإعطاء اللبنانيين كلّ ما يريدونه ويطمحون في ظلّ تغيّر المعطيات الإقليمية والدولية وموازين القوى السياسية. ولهذا لا بدّ، بحسب رأي الاوساط، من توافق جميع الأطراف في الداخل على وضع ورقة مطالب واحدة، أو على الأقلّ احتواء حزب الله لما يحاول البطريرك القيام به لحلّ الأزمة المتفاقمة في لبنان، وعدم استحضار عنصر خارجي بهدف نزع سلاح الحزب.