ما هو ثابت، انّه لم يتوافر بعد الإجماع على توصيف دقيق لحجم الأزمة التي يعيشها لبنان. فمقابل توصيف اهل السلطة بأنّها مؤامرة تُحاك ضدّ العهد، يراها آخرون انّها ترجمة واضحة للمؤشرات المالية والنقدية السلبية. وإن اعتقد آخرون انّها مزيج من سلاحي السياسة والإقتصاد، فعليهم تحديد الاطراف التي تمسك بالطرفين. والى ان يتمّ الإجماع على قراءة موحّدة، هل يمكن توقّع الخيارات الصعبة المنتظرة؟ فما هي؟
اياً كانت الدوافع التي قادت آلاف اللبنانيين امس الاول للنزول الى الشوارع، لم يتمكن أي من المراقبين فهم كثير من المعطيات التي سبقت ورافقت وتلت موجة الحراك الشعبي المستجد، الذي توزع على مساحة لبنان من اقصى شماله الى جنوبه، ومن عمق بيروت الى اطراف البقاع ومناطق مختلفة من جبل لبنان وجروده، في غياب اي دعوة واضحة، سوى تلك التي اطلقها متظاهرون عبر شاشات التلفزة، التي تردّد بعضها في تغطية الحراك الشعبي، في انتظار من يتبنّى اهداف الموجة الجديدة والغاية منها، لاستكشاف مستقبلها.
وكان لافتاً انّ بعضاً من رموز التنسيقيات التي نظّمت الحراك الشعبي وقادته في مواقع محدّدة، اكتسبت رمزيتها، وحيث ما زالت ترفع «قبضات الثورة»، لم تُطلق اي موقف يحاكي حجم التنسيق في ما بينها، ولم تعطِ اي اشارة الى إمكان انطلاق موجة جديدة من الإعتراض، اياً كانت الأسباب المؤدية اليها، سياسية كانت ام نقدية، في وقت ارتبطت الدعوات بارتفاع سعر الدولار وتجاوزه الـ10 آلاف ليرة، ما خلا الإشارة الى المصاعب الحياتية وفقدان المواطنين وظائفهم ومصادر عيشهم، في اللحظة التي بدأت فيها الدولة تخفيف الإغلاق الشامل تدريجاً.
وفي انتظار ما هو مرتقب من بيانات ومواقف ـ إن صدرت – لتشرح ما جرى منذ 48 ساعة، والأسباب التي قادت اللبنانيين الى التحرك بطريقة منتظمة وفق الآليات السابقة، إن على مستوى اختيار مراكز التجمع ومواقع قطع الطرق، او على مستوى الشعارات المتناسقة التي رفعت كدليل على حجم التضامن بين المنتفضين، توجّهت الانظار الى مجموعة من السيناريوهات التي تتحدث عن الإستحقاقات المقبلة، وسط اجماع غير مسبوق على انّها جميعها سلبية، وربما خطيرة جداً. وهو ما يبرّر رأي بعض العارفين في انّ ما هو مقبل أسوأ بكثير مما عشناه حتى اليوم. ففي رأيهم انّ لبنان لم يقع في المأزق الكبير بعد، رغم حجم الأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون. ومرد ذلك الى بعض الملاحظات الآتية، لتكون على سبيل المثال لا الحصر:
– انّ فشل السلطة السياسية التي تتحكّم بها خمس قوى تتمثل في حكومة «مواجهة التحدّيات»، يُنذر بما هو أسوأ. فانقسامها من مسألة تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة المهمّة الجديدة، وضع مستقبل المهمّة في خطر شديد، وأقل ما يُقال فيها انّها تهدّد مصير البلد وتجرّه الى ما لا يريده احد. وان اصرّ البعض على الخروج عن القواعد الدستورية لمجرد التفكير في اي محاولة للخروج على ما انتهت اليه الإستشارات النيابية الملزمة من تكليف سيقود البلاد الى انفجار متعدّد الوجوه، ولن تقتصر المواجهة بين الانتفاضة والسلطة، وربما دخلت الى بقية المؤسسات الدستورية لشلّها، وربما الى تدمير ما هو قائم منها بالحدّ الأدنى المطلوب من مهماتها.
– انّ محاولة عسكرة الانتفاضة أو حرفها عن أهدافها الإجتماعية والإقتصادية والنقدية، وزجّها في آتون المواجهة بين سلاحين، كما رغب البعض الذي يستند في قراءته الى وجود أحد المسلحين في تظاهرة او تجمّع – إن كان الخبر الذي عمّمته جهات حزبية معروفة التوجّه والأهداف والمرامي صحيحاً – سيؤدي حتماً الى تبرير اي مواجهة محتملة من اليوم. فالتجارب السابقة لم تُنسَ بعد، وهي ماثلة في الأذهان والعيون. ولذلك يكفي ان يندس بين الجوعى والعاطلين من العمل من يشتم شخصية ما، او حزباً ما، او يندّد بسيطرة السلاح غير الشرعي، فقط ليكون شرارة لموجة من الاعتداءات الجديدة، يعرف الجميع كيف تبدأ ولا يعرف كثر ما يمكن ان تنتهي اليه.
– انّ الإشارة المركّزة في بعض وسائل الاعلام، على عدم تدخّل الجيش والقوى الامنية الأخرى بالقوة التي يريدها البعض، لفضّ المتظاهرين، ليست بريئة في جانب منها. وهي ـ إن ساءت النيّة – تهدف الى زجّ الجيش في آتون المواجهة بين «سلطة وشعب» تحت شعارات مختلفة لها ما يبررها. وأخطرها إنّ وضع الجيش في مواجهة شخص او مسؤول ما، ويمكن ان يُقال ايضاً أنّ في امكان انضمام العسكر الى المتظاهرين، كما ينادي بعض المتظاهرين الأبرياء بنية صادقة، بالإستناد الى ضحالة رواتب العسكريين والإضاءة على اوضاعهم المعيشية، قياساً على حجم انهيار العملة الوطنية.
هذا غيض من فيض، مما هو متوقع من سيناريوهات، من المحتمل أن تشهد البلاد مثيلاً لها، وهو امر يزكيه استمرار المواقف على تصلّبها من مسألة تشكيل الحكومة ومن مجموعة الإصلاحات المطلوبة، وإدّعاء البعض التمسك بها واتهام الآخرين بالخروج عنها، من دون ان تضع الإجراءات حداً لهذا اللغط الحاصل.
وعليه، فإنّ ما سُرّب على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون امس الاول، من اتهام للرئيس المكلّف سعد الحريري ومعه رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب «التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط ومعهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتشكيل جبهة معادية ولأهداف عدّدها، يوحي ـ على الرغم من النفي الرسمي لهذا الكلام – أنّه رسم خطوطاً عريضة لمواجهة «واقعية» لم تعد «سرّية للغاية» بين هذه الأطراف. فكل المواقف تؤكّد وجود مثل هذا الإصطفاف الحاد، وان لم يضمّ القوة السياسية الخامسة من اركان السلطة المتمثلة بـ «حزب الله» الى أي من الطرفين، فلأنّ اهتماماته بالتأكيد تتجاوز النزاع بين اطراف هذه المجموعة الخماسية، ليتفرّغ الى ما هو اكثر خطورة واهمية بالنسبة اليه.
ولعلّ ما تسرّب عن مناورات ميدانية اقامها «حزب الله» لمواجهة اي تحرك شعبي يمكن ان يتناول سلاحه، توحي أنّ همّه بعد «سبت بكركي» يتجاوز الهمّ الحكومي الى ما يتعلق بصورته بين اللبنانيين، في ظلّ المواجهة الدولية التي تصرّ على «شيطنته» ودوره «المعيق» لكل الخطوات الإقتصادية والنقدية والسياسية المطلوبة لفك أسر لبنان وعزلته، على خلفية اتهامه بالسيطرة على الحكم في لبنان وإدارته من خارج منظومة الدولة والمؤسسات، التي يعكسها رأس الحكم في خياراته لجهة المجاهرة بانخراطه في محور الممانعة والمقاومة في مواجهة الحلف الآخر، ليبقي لبنان تحت سيف المقاطعة الخليجية ومسلسل العقوبات التي صدرت في حق البعض منهم وتلك المقبلة على لبنان وبعض المسؤولين فيه. ولذلك، لا بدّ من التنبّه الى جملة المخاطر التي تتحدث عنها السيناريوهات والإستحقاقات السلبية المقبلة على لبنان. فيما البحث الجاري عمّا ينقضها أو يعطّلها، بات في مرتبة البحث عن «إبرة ضاعت في كومة قش».