الأخبار-محمد وهبة
منذ 17 تشرين الأول 2019 لغاية اليوم، لم يتغيّر الكثير في سلوك «النظام». لا يزال يعمل بكلّ قوّته من أجل المصارف. إحياؤها من حالة «الزومبي» استدعى إصدار التعميم 154 بهدف «تعزيز سيولتها وخصوصاً لدى مراسليها في الخارج». طريقة الحصول على هذه السيولة حدّدها المجلس المركزي لمصرف لبنان بـ«حثّ العملاء» الذين حوّل كلّ منهم ما يفوق 500 ألف دولار، على إعادة نسبة من الأموال المحوّلة. المودعون والمستوردون، توجب عليهم إعادة 15%، بينما رفعت النسبة إلى 30% للأشخاص المعرّضين سياسياً وكبار مساهمي ومديري المصارف. في المقابل، وبحسب المادة الثالثة من التعميم، كان على المصارف أن تكوّن سيولة حرّة من أي التزامات لدى مصارف المراسلة في الخارج، بنسبة لا تقلّ عن 3% من مجموع ودائعها بالدولار في 31/7/2020 (البالغة 114 مليار دولار).
انتهت مهلة تكوين السيولة في 28 شباط الماضي، وعندما عُرض الأمر على المجلس المركزي لمصرف لبنان، قرّر هذا الأخير أن يمنح المصارف مهلاً زمنية إضافية مفتوحة، ربطاً بعملية دراسة الملفات ووضعية كل مصرف.
عملياً، ما حصل في الفترة الفاصلة بين تاريخ صدور التعميم في 27 آب 2020، وبين 28 شباط 2021 تاريخ انتهاء المهلة المحدّدة لتكوين السيولة، هو أن المصارف لجأت إلى طرق أخرى للحصول على السيولة. فقد كان يتوجب عليها تكوين سيولة بقيمة 3٫4 مليارات دولار مموّلة من التحويلات إلى الخارج. لكنها بدلاً من ذلك، لجأت إلى آلية شراء الدولارات من السوق المحلية. يقدّر أنه خلال شهر شباط الماضي، بلغ معدل شراء المصارف للدولارات الورقية نحو 16 مليون دولار يومياً. دفعت المصارف ثمن كل دولار ورقي بمتوسط 3٫3 دولارات من الشيكات بالدولار (أمس بلغ المعدّل 3٫7). خلال الأشهر الأربعة الماضية، كان هذا المسار هو السائد في السوق. لم يحرّك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولا نوابه الأربعة (وسيم منصوري، سليم شاهين، بشير يقظان وألكسندر موراديان) ساكناً من أجل إعادة فرض المسار الذين رسموه بأنفسهم للمصارف. ورغم أن الانحراف عن المسار أدّى إلى خلق طلب هائل على الدولار، إلا أنهم راقبوا ما يجري باطمئنان بالغ. فمنذ صدور التعميم ولغاية نهاية شباط الماضي، ارتفع سعر صرف الدولار بنسبة 25%. في البداية، بدأت المصارف الأكبر حجماً مثل «عوده»، «ميد»، «سوسيتيه جنرال»، «بيبلوس»، شراء الدولار عبر مقايضة شيكات الدولار، بالدولارات الورقية. وفي الأسابيع الأخيرة، انضمت مجموعة أخرى من المصارف الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، مثل «البنك اللبناني الفرنسي»، «بلوم بنك»، «بنك بيمو»، «بنك بيروت والبلاد العربية»، «بنك لبنان والخليج» وسواهم.السباق على جمع الدولارات لتصديرها إلى الخارج وإيداعها في مصارف المراسلة في حسابات السيولة الحرّة من الالتزامات، خلق طلباً هائلاً على الدولار في السوق المحلية. فالدولارات لم تكن مطلوبة من أجل إعادة تدويرها، ولو جزئياً، في الدورة الاقتصادية، بل كانت مطلوبة من أجل التصدير فقط. حتى إن لبنان لم يكن يحصل على سلع مقابلها. كانت هذه السيولة بمثابة حاجة ملحّة للاقتصاد. كان يمكن استعمالها بألف طريقة أفضل من تصديرها إلى الخارج مقابل خسائر في ميزانيات المصارف وطباعة المزيد من الليرات لتغطيتها.
المصارف كانت السبب الرئيسي لارتفاع سعر الدولار. لكن السبب الأساسي هو مصرف لبنان والسلطة السياسية. فالسلطة بكل أركانها، وبما فيها الحكومة المستقيلة ومجلس النواب والقضاء، فوّضت أمر إدارة الانهيار لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. رسم هذا الأخير خطّة «جهنّمية» تفترض أن الخسائر في القطاع المصرفي يمكن تغطيتها عبر طباعة النقود وضخّها في السوق، فيما يستوجب الحفاظ على الاحتياطات بالعملات الأجنبية ضرب القوّة الشرائية.
في البدء، حاول الفصل بين أسعار السلع الأساسية والسلع الأخرى. فحدّد السلع التي يجب استيرادها بالاحتياطات التي يملكها بالعملات الأجنبية (المحروقات، الأدوية، المستلزمات الطبية، القمح. لاحقاً أضاف المواد الغذائية) على أن تباع محلياً بسعر «مدعوم» يبلغ 1515 ليرة مقابل الدولار، على أن يتم إفلات سعر الصرف لباقي السلع فتزداد أسعارها وتصبح قدرة الناس على استهلاكها أقلّ. بمعنى آخر، إن ضرب القوّة الشرائية كان وسيلة سلامة من أجل تقليص الحاجة إلى استعمال الاحتياطات. وإضعاف القوّة الشرائية لا يحصل من دون إفلات سعر الصرف. وهذا الأمر خلق دينامية فتحت الباب أمام تجارة الشيكات التي استعملت ضمن هدف آخر: التمهيد لإعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر إطفاء الخسائر المتراكمة في ميزانياتها (بما فيها ميزانية مصرف لبنان). الخسائر المقوّمة بالدولار، يتم تسديدها بالليرة وفق سعر المنصّة، ومصرف لبنان يطبع كمية الليرات التي يحتاج إليها من أجل تغطية الخسائر. منذ تشرين الأول 2019 ولغاية نهاية شباط 2020 ضخّ مصرف لبنان في السوق، أكثر من 30 ألف مليار ليرة. أما إعادة هيكلة القطاع المصرفي، فتفترض تعزيز المصارف المفلسة بالسيولة.
هكذا ولد التعميم 154. ولد بثمن باهظ دفعه المقيمون في لبنان مباشرة من مداخيلهم ومدّخراتهم وثرواتهم. تجارة الشيكات بالدولار المحلي مقابل الدولار الورقي أو مقابل العملة الورقية المحلية (الليرات)، كانت تتأرجح تبعاً لتقلبات سعر الصرف. وسعر الصرف كان حرّاً من أي قيود. فالمركزي لم يحدّد أي سقف له، ولم يضع أهدافاً يجب بلوغها، أو خطوطاً حمراً لا يمكن تجاوزها، ولا يهتم بمعدلات التضخّم والبطالة التي خلقتها حالة الانهيار… كان همّه الوحيد إنقاذ المصارف. فهو من موقعه كحاكم يتمتع بصلاحيات إمبراطورية على السياسة النقدية والقطاع المصرفي، وعبر لجنة الرقابة على المصارف، وكل الهيئات التي يترأسها، كان يعلم بشكل دقيق ما تقوم به المصارف. أصلاً هو من أتاح لها هذا الطريق. لم يجبرها على الامتناع عن سلوكه. بدا كأنه «ينتشي» خلال شرائها الدولارات من السوق. ظهر ذلك عندما كان يروّج بأن هناك نحو 10 مليارات دولار ورقي بين أيدي الناس.
كان بإمكان سلامة منع المصارف من سحب الدولارات من السوق المحلية، وإلزامها بتطبيق التعميم. لم يكن الأمر يتطلب سوى بضعة إجراءات تحدّد كيفية استعمال الشيكات والوجهة منها، أو منع المصارف من استعمال رساميلها لشراء الدولار التي تصدّر لاحقاً بشيكات مصرفية. كان يمكن إبقاء حركة تجارة الشيكات ضمن حدّها الأدنى، لإجبار المصارف على إعادة التحويلات من الخارج، سواء عبر حث عملائها المودعين والمستوردين، أو إجبار مساهميها والشخصيات السياسية على إعادة الأموال.
إجراءات من هذا النوع، كانت ستخفّف الألم الناتج من تضخّم الأسعار الذي خلقه سلامة نيابة عن قوى السلطة. لكن سلامة والقوى التي ترعاه ويعمل باسمها، اختارت أن تعمّم الخسائر على كل الناس إلا على مستحقيها. لكن الأنكى من ذلك، أنه لم يحقق الهدف. فالهدف، بحسب التعميم، يكمن في أن إعادة قسم من الأموال المحولة إلى الخارج، تضفي صدقية لدى مصارف المراسلة حتى تصبح مترددة في رفع دعاوى إفلاس على المصارف اللبنانية. هل يجب على مصارف المراسلة اليوم أن تصدّق أن زبائنها (المصارف اللبنانية) هي جهات تتمتع بأهلية للعمل المصرفي؟ كيف تقتنع المصارف بهذا الأمر طالما أن المصارف تشتري الدولار الورقي بـ 3٫7 دولارات محلية؟ من سيغطي الخسائر التي نجمت عن هذه العمليات؟
هذه الأسئلة مثيرة للذاكرة؛ في أحد اجتماعات التفاوض بين الفريق اللبناني برئاسة وزير المالية غازي وزني، وإلى جانبه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونوابه الأربعة، ومستشاريهم مع فريق صندوق النقد الدولي، توجّه ممثل الأخير إلى سلامة بالقول: «إن ما تقوم به يشعل سعر الصرف. سيرتفع سعر الدولار إلى 10 آلاف ليرة و20 ألفاً…». لا يمكن إشعال سعر الصرف من أجل تحميل الناس الخسائر عبر التضخّم. حتى صندوق النقد الدولي، المعروف بوحشيته، كان أرحم من رياض سلامة العامل نيابة عن قوى السلطة!
22 مليار دولار بأيدي الدائنين الأجانب
لم يكتف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بترك المصارف تشتري «على راحتها» الدولارات من السوق، بل أتاح لها المجال أيضاً من أجل احتساب القيمة السوقية لسندات اليوروبوندز ضمن السيولة الخارجية المطلوبة منها. هذه الخطوة يدافع عنها المصرفيون باعتبار أن مصرف لبنان تعامل مع الفرق بين القيمة الاسمية لسعر سندات اليوروبوندز، وبين القيمة السوقية على أنه خسائر، وبالتالي فإن ما تبقى بعد الخسائر هي سيولة.
أولاً، إن سندات اليوروبوندز لا يمكن أن تقوّم في السوق من خلال قيمتها في التداول، وخصوصاً في حالة الإفلاس (التوقف عن الدفع). ربما يمكن إجراء تقويم سوقي لسعرها بالاستناد إلى قيمة رهنها في الخارج. هل هناك أي مصرف أجنبي (محترم) يوافق على رهن هذه السندات مقابل إقراض ما يوازي قيمتها السوقية للمصرف اللبناني؟
ثانياً، إن تعريفات السيولة متنوعة، لكن لا تدخل بينها قيمة سندات اليوروبوندز. لا تعدّ سندات اليوروبوندز المتداولة في البورصات الدولية سيولة إلا إذا تحققت عملية بيعها. هذا الأمر كان محور خلاف أساسي بين مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي عندما أراد الأول اعتبار سندات اليوروبوندز سيولة جاهزة يمكن تضمينها في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. صندوق النقد لم يقبل بهذه الألاعيب.
ثالثاً، إن ما قام به سلامة دفع المصارف إلى التخلّي عن هذه السندات وبيعها في الخارج. عام 2020، باعت المصارف سندات يوروبوندز إلى جهات أجنبية بقيمة 4٫4 مليارات دولار، ولم يعد لديها أكثر من 9٫4 مليارات دولار محمولة في محافظها. ما يعني أن الدائنين الأجانب باتوا يحملون سندات دين لبنانية بأكثر من 22 مليار دولار، مقارنة مع 4 مليارات في نهاية 2011. هذا الأمر يعزّز القوّة التفاوضية للدائنين الأجانب، فضلاً عن أن الأجانب الذين اشتروا السندات اللبنانية في فترة الأزمة هم «الصناديق الكاسرة» التي تبحث عن دولة مفلسة فتشتري سنداتها بثمن بخس وترفع دعاوى دولية بالاستعانة بمكاتب محاماة دولية مشهورة لتحصيل الأرباح.