إحتجاجات تصاعدية وعقوبات اوروبية
لم يكن تجدّد الإنفجار الشعبي في الشارع امراً مفاجئاً للمراقبين، فالعوامل التي تجمعت وتراكمت خلال المرحلة الماضية، من تدهور اقتصادي مستمر، ازمات سياسية عاصفة، والعجز عن تأليف حكومة من المفترض ان تكون حكومة إنقاذ، والخلافات العاصفة التي ترتكز على المحاصصة والمصالح الشخصية، كل تلك العوامل توّجها تخطّي سعر صرف الدولار حاجز الـ10 آلاف ليرة لبنانية. وكان من المنطقي ان يعود المتظاهرون الى الشارع بعد هدنة طويلة.
لكن ثمة ملاحظات ثلاث ميّزت تحركات الثلثاء الماضي عمّا سبقها:
ـ الملاحظة الاولى، انّ النقاط التي طاولتها عمليات قطع الطريق بلغت نحو الـ70 نقطة، وهي شملت مناطق جديدة، اضافة الى مناطق أُخرى تحرّكت فقط في الايام الثلاثة الاولى من احتجاجات 17 تشرين، وغابت عنها لاحقاً مثل طريق المطار.
ـ الملاحظة الثانية، انّ المتظاهرين الذين تحرّكوا في المناطق ذات الغالبية الشيعية، هم من غير الحزبيين، وتحديداً من المجموعات نفسها التي تولت التحرك خلال فترات الإحتجاجات السابقة. وكان لافتاً عدم تعرّض «حزب الله» لهؤلاء، التزاماً بالدروس المستقاة من المرحلة السابقة.
فبعد انفجار الوضع في 17 تشرين 2019، اندفع «حزب الله» تحت أشكال وعناوين مختلفة في خطة السيطرة على الشارع، وإخراج المتظاهرين منه ولو بالقوة. لاحقاً بدا انّ هذه السياسة اضرّت بـ»حزب الله» وجعلته على خصومة مع شريحة من الطائفة الشيعية حتى ولو لم تكن كبيرة. وساد إقتناع انّه كان من الأفضل استيعاب المتظاهرين لا التصادم معهم، لأنّهم ينطلقون من وجع اقتصادي ومالي ومعيشي، وأنّ من الافضل احتضانهم، تماماً كما تصرّف الجيش اللبناني معهم، وهذا ما حصل الآن.
ـ الملاحظة الثالثة، تتعلق بالأخبار التي جرى توزيعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كانت مفبركة، وركّزت على الجيش اللبناني، وكان الهدف من الجهة التي تقف وراءها حشر الجيش والتشويش عليه.
ومعه، كان الاستنتاج أنّ الجوع وانقطاع الكهرباء وارتفاع اسعار المحروقات والأزمة السياسية، وهي العوامل التي حرّكت المتظاهرين، تسلّل من خلالها بعض الجهات السياسية للاستفادة منها. لكن هذا لا يلغي أنّ حال الثورة التي يعيشها الشارع اللبناني منذ 17 تشرين لا تزال موجودة بقوة، لا بل ازدادت اكثر مع الوجع المتزايد، وانّ الرهان على الوقت الذي اعتمدته الطبقة السياسية كان رهاناً واهياً.
التقديرات تشير الى انّ سعر صرف الليرة يتجّه الى مزيد من التدهور بسبب الانهيارات الاقتصادية والمالية المستمرة، أضف اليها شعور اليأس بسبب المحاصصة التي تعطّل الولادة الحكومية. ومعه، فإنّ الاحتجاجات الشعبية مرشحة للاستمرار لا بل الى التصاعد خلال الايام القليلة المقبلة. فالتقديرات تشير الى انّ تحرك الشارع سيستمر تصاعدياً. وعلى سبيل المثال، البعض يتوقع «ويك اند» حافلاً هذا الاسبوع.
في هذا الوقت، ذكرت مصادر مطلعة انّ اجتماعاً سيُعقد قبل نهاية الاسبوع في باريس بين مسؤولين فرنسيين واميركيين، له علاقة بالشرق الاوسط وبالملف اللبناني ايضاً.
وتردّد انّ باريس، المستاءة جداً من العقبات التي تقف في وجه الولادة الحكومية، والتي تضعها في إطار المصالح الشخصية، باتت تميل الى فرض عقوبات اوروبية على المتسببين بالعرقلة، وانّ بحثاً اولياً يدور حول سلة الأسماء التي ستشملها هذه العقوبات. وما من شك انّ الدوائر المختصة في باريس وواشنطن، إضافة الى الفاتيكان بطبيعة الحال، عملت على رصد التحرك الشعبي تجاه بكركي وكلمة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. ففي كلمته حمل البطريرك عنوانين كبيرين، الاول يتعلق بالحياد، والثاني يتعلق بالدعوة الى المؤتمر الدولي.
في الواقع، كان الراعي قد طرح هاتين النقطتين مع الكرسي الرسولي من جهة ومع السفيرتين الاميركية والفرنسية، ولم يسمع اعتراضاً على ما حمله، ولكن في الوقت نفسه لم يسمع تأييداً وتشجيعاً. هو يدرك انّ للدول مصالحها السياسية، لكنه وجد انّه ملزم بالذهاب في هذا الاتجاه، بسبب عمق الأزمة السياسية الحاصلة، والتي باتت تهدّد وجود لبنان. ولا شك انّ السفارتين الاميركية والفرنسية عملتا على رصد ردة فعل «حزب الله» من جهة، والمعاني الفعلية للحضور الشعبي في باحة بكركي.
في الواقع، بدا ردّ فعل «حزب الله» هادئاً، ولو أنّه كان معترضاً على كلام سيد بكركي، فلم يصدر بيان رسمي عنه، واكتفى بالتعليق من خلال النائب حسن فضل الله. وعلى خط موازٍ، قرّر اعادة تنشيط قناة التواصل والتحاور مع بكركي.
فعلياً كان «حزب الله» قد ارسل وفداً الى بكركي بقيت زيارته بعيدة عن الإعلام، عشية مشاركة البطريرك الراعي وفد البابا فرنسيس لزيارة القدس. ومن ثم حصلت زيارتان لوفد من الحزب في مناسبتين مختلفتين، ورغم ذلك فإنّ التواصل بقي بارداً جداً، وزادت من برودته دعوة بكركي الى الحياد. لكن ثمة تبدّلات كثيرة حتّمت إعادة الحرارة الى لجنة الحوار. وخلافاً لما جرى تداوله، فإنّ مسؤول «حزب الله» عن ملف العلاقات مع القوى المسيحية محمد الخنسا، اتصل بعضو لجنة الحوار حارث شهاب، طالباً استعادة الحوار مع بكركي، وذلك يوم الجمعة الذي سبق سبت التظاهرة الى البطريركية. ربما كان الهدف الإيحاء أنّ عودة تنشيط الحوار لا علاقة له بمضمون الكلمة، او ربما ايضاً لمحاولة التخفيف من الجو السلبي.
في أي حال، فإنّ معاودة اللجنة اجتماعاتها سيحصل قريباً، مع تمسك البطريرك بإيجاد حلول للعنوانين اللذين طرحهما، اضافة الى هاجس انهيار ركائز الدولة بسبب الأزمة الحكومية المتفاقمة.
ومن المعروف تاريخياً، تلك المعادلة التي تحكم الساحة المسيحية، عندما يطغى دور رئيس الجمهورية يضعف دور بكركي، وعندما يضعف دور رئيس الجمهورية تأخذ بكركي بريق الحركة والدور، وما يحصل الآن يشكّل ترجمة جديدة لهذه المعادلة.
ومعه، لم يعد في وسع «حزب الله» الإتكال فقط على حلفه مع رئيس الجمهورية او مع «التيار الوطني الحر». وعندما سُئلت بكركي عن سبب غياب «التيار الوطني الحر» عن دعم الحشد الشعبي كان جوابها انّ «التيار» قد يكون محشوراً بتحالفاته، والمقصود هنا تحالفه مع «حزب الله».
في المقابل، لا بدّ من ان يكون «حزب الله» ومعه السفارتان الاميركية والفرنسية، قد اطلعوا على استطلاعات حصلت حيال التبدّلات التي طرأت على الساحة المسيحية.
في الواقع، جرت استطلاعات عدة جاءت نتائجها متشابهة، فنحو67% من المسيحيين ضدّ كل الإصطفافات الحزبية، في مقابل تراجع كبير في صفوف مؤيّدي «التيار الوطني الحر» والذي اصبح خلف مؤيّدي «القوات اللبنانية» بنقاط عدة.
وفي قراءة للحشد الذي شهدته بكركي، فإنّ المراقبين المهتمين لاحظوا أنّ الغالبية كانت من المستقلّين، وانّ الاحزاب لم تعمل على تأمين حشد واسع من جمهورها. ففي الواقع، من اليوم وحتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإنّ من سيرسم السقف السياسي للمسيحيين اصبحت بكركي. وعلى سبيل المثال، وخلافاً للتلميحات الكثيرة الصادرة عن محيط «التيار الوطني الحر»، فإنّ البطريرك الراعي حازم وجازم في اجراء الانتخابات النيابية والرئاسية في الموعد الدستوري. وفي المقابل، فإنّه لم يلمح ابداً الى انتخابات مبكرة كما يطالب حزبا «الكتائب» و»القوات اللبنانية».
وفي ملاحظة اخيرة، هنالك من يعتقد انّ تظاهرة بكركي هي من أعاد الحياة الى حركة الشارع التي تجدّدت بعد ايام ثلاثة على سبت بكركي، وستُلهبها مجدّداً مآسي الحالة المعيشية وسياسة «كرباج» العقوبات، الذي تستعد اوروبا لرفعه في وقت ليس ببعيد.