|
إيلي القصيفي -أساس ميديا- الثلاثاء 02 آذار 2021 |
ينتظر العراق والمنطقة بأسرها حدثًا مهمًّا في الخامس من آذار المقبل، وهو وصول البابا فرنسيس إلى بلاد ما بين النهرين، في زيارة هي الأولى لبابا الفاتيكان إلى العراق. علمًا أنّ البابا يوحنا بولس الثاني كان ينوي زيارة العراق في العام 2000.
يتحدّث زياد عزيز، نجل وزير الخارجية العراقية السابق طارق عزيز، في حديث إلى جريدة “كورييري دللاسيرا” الإيطالية، عن ضغوط خارجية أدّت إلى إلغاء الزيارة قبل 21 عامًا، لأنّ التحضيرات لغزو العراق كانت قد بدأت. وتذكر أوساط صحافية في الفاتيكان أنّ الرئيس العراقي السابق صدّام حسين هو من “ألغى” الزيارة، مع العلم أنّ عزيز يروي أنّ والده نقل دعوة إلى البابا الراحل لزيارة بغداد.
وبعد 18 عامًا على غزو بغداد وما أعقبه من مآسٍ وقتل وتهجير ودمار، يزور البابا فرنسيس العراق حاملًا رسالة سلام عنوانها: “أنتم جميعًا أخوة”.
ولعلّ هذا الشعار المأخوذ من “إنجيل متّى” يكفي لفهم مضمون الزيارة التي أراد البابا، الفريد في شخصيّته وأسلوبه، القيام بها في توقيت بالغ الدلالة.
فإذا كانت تبعات غزو العراق سرعان ما طالت المنطقة بأسرها التي غرقت في الحروب والصراعات المذهبية والطائفية، فإنّ زيارة الحبر الأعظم إلى بلاد ما بين النهرين الآن، هدفها بدء مسار معاكس في العراق والمنطقة، هو مسار السلام عوض مسار الحرب.
لذلك اختار البابا أن يكون العراق أوّل بلد يزوره منذ تعليقه رحلاته الخارجية إثر تفشي كورونا، وذلك في وقت تنتظر المنطقة تحوّلات استراتيجية كبرى، خصوصًا بعدما انحسر “داعش” وفُتحت العين الدولية على تأثير إيران السلبي على طول الخريطة الإقليمية.
الأهمية الاستثنائية للزيارة تجعلها معرضّة للعديد من التحدّيات. ولذلك لا تستبعد أوساط مسيحية عراقية أنّ تؤجّل الزيارة في اللحظات الأخيرة في ظلّ الخطر الأمني المتفاقم في العراق بعد قصف الميليشيات الموالية لإيران مناطق ستكون محطات رئيسية في زيارة البابا كالمنطقة الخضراء، حيث القصر الجمهوري ومطار أربيل في كردستان في الشمال.
كذلك تشير هذه الأوساط إلى اندلاع تظاهرة في الناصرية التي سيمرّ فيها البابا في طريقه إلى أور جنوبي العراق. كما تتوقّع أن تخرج تظاهرات أمام منزل المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني الذي سيلتقيه البابا في السادس من آذار، أي في اليوم التالي على وصوله. أضف إلى ذلك صدور قرار أخيرًا يحظر على العراقيين التنقّل بين المحافظات، و”ذلك من ضمن إجراءات مكافحة كورونا”. وهو أمرٌ قد يعوق حركة العراقيين الذين يريدون مواكبة زيارة البابا والمشاركة في فعالياتها في محافظات غير محافظاتهم.
هذا مع العلم أنّ البابا لم يُشر في عظته خلال قداس الأحد الماضي إلى الزيارة، ولم يطلب من المؤمنين الصلاة لنجاحها. وهو ما عدّته أوساط صحافية في روما مؤشرًا إلى احتمال تأجيلها. لكن لم يصدر أيّ بيان رسمي عن الفاتيكان يؤكّد أو ينفي.
وتشير تقارير إلى عدم ارتياح إيران لزيارة الحبر الأعظم للعراق، خصوصًا أنّه سيلتقي السيستاني وبالتالي سيكّرس المكانة الدينية للمرجع العراقي بوصفه المرجع الشيعي الرئيسي في العالم.
ولم يتّضح بعد ما إذا كان البابا سيوقّع وثيقة مع السيستاني تكون بمثابة تتمّة لوثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب في 4 شباط 2019 بأبو ظبي، أو أنّ اللقاء سيقتصر على مداولات بين الرجلين.
من جهة ثانية لا يمكن إغفال أنّ العراق يعدّ حاليًا ساحة تصعيد إيرانية بوجه الإميركيين، في ظلّ شدّ الحبال الحاصل بين الجانبين على خلفية الملف النووي الإيراني. وهو ما يُلقي بثقله حتمًا على الزيارة. ولذلك ثمّة تساؤل عمّا إذا كانت طهران صاحبة النفوذ القوي في بغداد ستسهّل الزيارة أم ستحاول عرقلتها كإحدى رسائلها التصعيدية بوجه واشنطن والعواصم الأوروبية.
ويتطلّع المسيحيون العراقيون بأمل كبير إلى زيارة البابا لهم بعدما قاسوا الويلات منذ سقوط نظام صدّام حسين، خصوصًا بعد احتلال “داعش” لبلداتهم في سهل نينوي خلال ساعات معدودة بعدما انسحبت القوات العراقية أمام تقدّمه.
ولعلّ التحدّي الأساسي الذي يواجهه المسيحيون العراقيون، هو وقف نزيف الهجرة المتواصل منذ 2003، وقد إدّى إلى تراجع أعدادهم في العراق من مليون وخمسئة ألف شخص قبل الغزو، إلى أقلّ من خمسمئة ألف اليوم. في حين يتطلّع المسيحيون الباقون في العراق، وخصوصًا الشباب بينهم، إلى الهجرة واللحاق بأقرانهم الذي غادروا إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وأستراليا وأفريقيا.
فمثل سائر العراقيين يواجه المسيحيون في العراق ثلاثة تحدّيات، أولّها الأمني في ظل انتشار الميليشيات، وثانيها الاقتصادي بسبب تردّي الأوضاع المعيشية وارتفاع نسبة البِطالة، وثالثها الصحي بسبب تفشّي كورونا.
ولا شكّ أنّ التحدّي الأمني يبقى الأكثر إلحاحًا على المسيحيين العراقيين، لاسيّما وأنّه عامل أساسي في نزوحهم وهجرتهم، إذ يشكون من استيلاء الميليشيات الموالية لإيران على أملاكهم التي تركوها بعد سيطرة داعش عليها.
فمثلًا في قرية برطلة (محافظة نينوي) عادت 1500 عائلة من أصل 3000، وفي قره قوش (محافظة نينوى) التي تعدّ المدينة الأكثر كثافةً بالسكان المسيحيين في العراق، عاد 25 ألف شخص مسيحي من أصل 50 ألف شخص. وحتّى المسلمون تناقصت أعدادهم في المنطقة بعد احتلال داعش لها، وعانوا هم أيضًا من الاستيلاء على ممتلكاتهم.
زيارة البابا إلى العراق المُقرّرة في الخامس من آذار تعدّ “الأمل الأخير” بالنسبة إلى المسيحيين العراقيين. لكنّ تأثيراتها تتجاوز الواقع المسيحي العراقي. إذ يعكس عنوانها “أنتم كلّكم أخوة” معنًى سياسيًّا للعراق والمنطقة، باعتبار أنّ الأخوّة الحقّة تقوم على المساواة في المواطنة أي على عدم استقواء مواطن على آخر، بسبب الدعم الخارجي الذي يتلقّاه، وفي الحالة العراقية فإنّ هذا الدعم هو في شكل أساسي دعم إيراني.
إنّه طريق صعب يسلكه البابا إلى العراق البلد المعلّق على الصليب منذ 2003، وهو طريق لا يقلّ صعوبة عن طريق الجلجلة الذي سلكه السيّد المسيح إلى الصليب. فهل يكون تزامن الزيارة البابوية مع زمن الآلام والقيامة بشرى لتحرير العراق وقيامته؟