عبادة اللدن -أساس ميديا
ببيان من بضعة أسطر، مسح مصرف لبنان كلمته في شأن المهلتين الممنوحتين للبنوك لزيادة رؤوس أموالها بنسبة 20%، وتكوين حسابات محرّرة لدى البنوك المراسلة بما يعادل 3% من ودائعها بالدولار، وأعطى البنوك الشبحية عمراً ممتداً لتواصل الاستنسابية في تهريب ما تبقى فيها من أموال لصالح النافذين.
أياً تكن التبرير المقتضب فإنّ مغزاه الأوضح سقوط هيبة المصرف المركزي، وضياع هجمته المرتدة للإمساك بملف إعادة هيكلة البنوك في غياب السلطة التنفيذية، بعد أن تبيّن أن عدداً كبيراً من البنوك، وبعضها مصارف كبرى من فئة “ألفا”، لم تتمكن من توفير السيولة المطلوبة، أو تنفيذ زيادة رأس المال الأولية، أو تقديم خطة معقولة لإصلاح أوضاعها، فيما يبدو مصرف لبنان عاجزاً عن تنفيذ وعيده بتحويلها إلى الهيئة المصرفية العليا لتصفيتها أو تعويمها.
البيان الصادر عن الأمانة العامة للمجلس المركزي في مصرف لبنان أورد، لسبب لا يخفى، أن اجتماعه أمس عُقد “برئاسة الحاكم وحضور جميع الأعضاء مع رئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف”، ليتسلّح باتفاق هؤلاء وإجماعهم على “وضع خارطة طريق مع مهل للتنفيذ سيلجأ مصرف لبنان من خلالها إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة المتعلقة بتطبيق أحكام التعميم رقم 154 وذلك استنادا إلى تقارير معدة من قبل لجنة الرقابة على المصارف”.
ووعد المجلس المركزي سينعقد دوريا لمتابعة الموضوع ومعالجة وضع كل مصرف على حدة بالتنسيق مع كل من: هيئة الأسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة والهيئة المصرفية العليا”.
مفادُ ما ورد أعلاه التخلي عن مهلة زيادة رؤوس الأموال بنسبة موحّدة هي 20%، والتي انتهت بنهاية عام 2020، وكذلك عن مهلة تكوين مهلة الحسابات الدولارية الحرّة من الالتزامات لدى البنوك الأجنبية المراسلة، والتي انتهت في 28 شباط الفائت، وترك الأمر برمته إلى الخطط التي ستقدمها البنوك للجنة الرقابة على المصارف، لإعادة تكوين رؤوس أموالها و/أو زيادتها.
في الظاهر، يبدو قرار المجلس المركزي منطقياً، إذ إنّ تجزئة المهل قادت إلى ممارسات يائسة وغير قانونية من بعض البنوك لتوفير السيولة، مثل شراء الدولارات من الصرّافين بأسعار مرتفعة، وتسييل شيكات بخصم هائل، لتفاقم من خسائرها وتجعل ملاءتها في وضع أكثر سوءاً. فلماذا دفع مصرف لبنان إلى ممارسات لا أفق لها ولا تكفي لحل الأزمة؟
بدأ الأمر في تشرين الثاني 2019 بمهلة أعطاها مصرف لبنان للبنوك حتى منتصف العام الماضي لزيادة رؤوس الأموال بنسبة 20%، ثم لمّا فشلت معظم البنوك في الالتزام، مدّد المهلة حتى نهاية 2020، وأعطى البنوك أبواباً خلفيّة كثيرة لتسهيل الالتزام. وأرفق ذلك بإصدار التعميم الأساسي الشهير رقم 154 في آب الماضي، ملزماً البنوك بأربعة أمور أساسية:
1- القيام بعملية تقييم عادل للموجودات والمطلوبات، ووضع خطة للالتزام بنسب الملاءة والسيولة المطلوبة، لإعادة النشاط إلى ما كان عليه قبل تشرين الأول 2019.
2- بنتيجة تقييم الأوضاع، يتقدم كل مصرف من المجلس المركزي لمصرف لبنان بطلب الاستحصال على موافقته على إعادة تكوين رأسماله أو زيادته وفقاً للحاجة، خلال الربع الأول من العام الحالي. ولفظ “إعادة تكوين” مقصودٌ هنا، ليشمل عمليات التخفّف من الأصول كبديل عن ضخّ أموال طازجة من المساهمين أو من شركاء جدد، أو حتى من استبدال جزء من الودائع بأدوات دين رأسمالية.
3-“حثّ” أصحاب التحويلات الكبرى والمستوردين على إعادة جزء من الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج منذ منتصف 2017.
4- تكوين حسابات خارجية حرّة من أيّ التزامات لدى البنوك المراسلة في الخارج لا تقل عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية، بناءً على رصيدها بتاريخ 31 تموز 2020.
البند الأخير هو الذي انقضت مهلته في 28 شباط، وقد تطلّب تنفيذه إجراءات صعبة من البنوك، أبرزها تخلّص بنك لبنان والمهجر في مصر مقابل 427 مليون دولار، وهو رقم يفوق بنحو 60 مليون دولار ما يحتاج لإيداعه في الحساب الحرّ لدى البنوك المراسلة، والأهم أنّه تحرّر من قاعدة أصول لدى وحدته المصرية تقارب 2.9 مليار دولار، مع ما توجبه من متطلبات “رأسمالية”، وهذا يحسّن بالتأكيد مستويات الملاءة والسيولة لديه. لكنّه سيخسر في المقابل مورداً مهماً للإيرادات والأرباح، كان يشكل في 2019 نحو 43% من عوائد البنك.
وفي خطوة مماثلة من حيث الهدف، توصل بنك عودة إلى صفقتين لبيع وحداته التابعة في مصر، لبنك أبوظبي الأول، وفي الأردن والعراق لـ”كابيتال بنك” الأردني، من دون أن يعلن حتى الآن قيمة أي منهما. لكنّ مصادر رويترز كانت قد قدرتها في أيار الماضي صفقة بيع الوحدة المصرية بنحو 700 مليون دولار، ويرجّح أنّ الاتفاق تم على مبلغ أقلّ من ذلك. وأيّاً يكن فإنّه يكفي لتغطية نسبة الـ3% من الودائع المحلية بالدولار المطلوب إيداعها لدى البنوك المراسلة، والتي تقدّر بـ390 مليون دولار بالنسبة لبنك عودة، قياساً إلى قاعدة ودائعه.
لكن في ما عدا هذين البنكين تبدو الصورة مختلفة. فالبنوك التي ليس لديها أصول خارجية لتبيعها كان عليها إيجاد مصادر أخرى لتوفير الدولارات، وتلك مهمة عسيرة في ظل شحّ الدولار، ولعلها مهزلة أن تلجأ البنوك إلى سوق الصيرفة للملمة بعض الدولارات وبيع الشيكات، بعد أن كان مسؤولو المصارف يخرجون على شاشات التلفزة ليقولوا إنّ سوق الصرّافين صغير جداً ولا يشكل أكثر من 5% من التداولات!
لا بدّ من مورد آخر إذاً. هنا لا بدّ من التدقيق فيما فعله مصرف لبنان منذ الصيف الماضي، فبياناته تشير إلى نقص احتياطاته الدولارية بنحو ثلاثة مليارات دولار في شهر تموز، ثم بملياري دولار في شهر آب، ثم بأكثر من 2.1 مليار دولار في أيلول. أي أنّها انخفضت بأكثر من سبعة مليارات دولار في ثلاثة أشهر، في حين أن تكاليف دعم استيراد المواد الغذائية والمحروقات وسواها لا تزيد تكلفته بأي حال عن 500 إلى 600 مليون دولار شهرياً. ما يعني أن هناك أكثر من خمسة مليارات دولار ذهبت إلى وجهة أخرى، يرجّح أنّها البنوك، بدليل أنّ رصيد ودائع البنوك التجارية لدى مصرف لبنان انخفض بنحو 5.4 مليار دولار بين آذار وأيلول من العام الماضي، من 108.6 إلى 103.2 مليار دولار. ومع أنّ هذا الانخفاض يعود في جزء منه إلى التعويض عن سحوبات عملاء البنوك من ودائعهم الدولارية بالليرة اللبنانية بسعر 3900 ليرة للدولار، إلا أن الجزء الأكبر منه لا يُفسّر إلا بسداد مصرف لبنان لودائع مستحقّة لديه للبنوك.
بتعبير آخر، وفّر مصرف لبنان الدولارات للبنوك، أو للبعض منها على الأقلّ، لتتمكّن من تدبير أوضاعها، فيما يقول إنّ حجم احتياطاته وصل إلى الحدّ الأدنى الذي لا يجوز السحب منه لتمويل الدعم. هنا يستطيع مصرف لبنان أن يزعم فعل ذلك ليقطع شوطاً مهماً في معالجة أزمة السيولة الأجنبية لدى المصارف من خلال تكوين الحسابات الخارجية الحرّة، لكنها ليست كذلك. فالحصيلة الحقيقية أن بعض المصارف دمّرت ملاءتها مقابل حصولها على الدولارات وتحويلها إلى الخارج، ومصرف لبنان نفسه بدّد مليارات الدولارات من احتياطاته التي يفترض أن تكون “خميرة” لا بديل لها لإعادة الهيكلة الكبرى للنظام المالي.
هذا في ما يتعلق بالسيولة. أما ما يتعلق بزيادة رؤوس الأموال فالصورة تبدو أكثر تعقيداً. لأنّ المهلة انقضت في 31 كانون الأوّل الماضي لزيادة رؤوس الأموال بنسبة 20%، وقد أُتيح للبنوك التحايل على هذه الزيادة من خلال إعادة تقييم العقارات أو استقبال مساهمات عينية! وهذا يخالف أدنى شروط المهنية في عمل أيّ مصرف مركزي، لأنّه ينسف كيفية احتساب كفاية رأس المال وفق معايير “بازل 3″، على أساس ما يُعطى من وزن للمخاطر في كلّ فئة من فئات الأصول.
لكن بعد هذا التحايل تأتي المرحلة الأهمّ، وهي التقييم “العادل والشامل” للموجودات والمطلوبات، تمهيداً لتقديم خطة لإعادة تكوين رأس المال أو زيادة، ليوافق عليها المجلس المركزي في مصرف لبنان، كلٌ حسب وضعه، على أن يجري تنفيذها خلال الربع الأوّل من العام الحالي، أيّ قبل نهاية آذار المقبل.
المعلومات تشير إلى أنّ عشرات البنوك لم تقدّم خططها بعد، وأنّ بعض البنوك الكبرى قدّمت خططاً لا تحمل أدنى الشروط التي تسمح بالموافقة عليها. وهنا سيكون المحكّ الأساسي، لأنّ البنوك ستصطدم بالمدقّقين الخارجيين في عمليات التقييم إذا ما أرادت الاستمرار بإهمال المعايير المحاسبية الدولية ومعايير “بازل 3″، في تقييم ما تحمله في محافظها من يوروبوندز وشهادات إيداع لدى مصرف لبنان، وفي احتسابها تأثيرَ انخفاض الليرة على قاعدة موجوداتها ومطلوباتها.
من ذلك ما يشير إليه خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي من أنّ بعض البنوك ما تزال حتّى اليوم تضمّن أصولها المتداولة اليوروبوندز وشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، القريبة الاستحقاق، على الرغم من إعلان الدولة توقّفها عن السداد.
الخطير هو حالة النكران التي يعيشها القطاع المالي برمته، من تخيّل أن بإمكان كلمة “حثّ” أن تدفع من حوّلوا أموالهم على الخارج، إلى أن يعيدوا بعضها، أو تخيّل أنّ بالإمكان إقناع المودعين بأن يحوّلوا ودائعهم إلى سندات دائمة (perpetual bonds) ذات ثمن بخس، في بنوك مفلسة، من دون أي أمل جدّي بتسييلها لاحقاً بسعر معقول.
في المحصّلة، ليس في الأفق ما يشير إلى استعداد كبار المساهمين في البنوك لضخّ رؤوس أموال جديدة، وليس إصلاح القطاع ممكناً على أيّ حالٍ، ما لم تتمّ إعادة هيكلة دين الدولة ومصرف لبنان، وحصر ما ينتج عن ذلك من خسائر.
وأخطر ما في الأمر أنّ المساهمين الذين فقدوا إيمانهم بمصارفهم ما زالوا مطلقي اليدين في التصرف بأموال المودعين، وتهريب ما شاءوا من السيولة التي تقع عليها أيديهم. فمن يستطيع أن يلاحق فواتير المصاريف التي يدفعها بنك مفلس في فترة الريبة، في غياب أيّ سلطة تستطيع أن تضع يدها وتفرض الوصاية على ما تبقّى.
بهذا البُعد ستكون خطط زيادات رؤوس الأموال امتحاناً لمصداقية لمصرف لبنان وللجنة الرقابة على المصارف. فإن شاءا احترام المعايير الدولية ستكون قرارات الدمج والإفلاس مؤلمة، وإن شاءا الاستمرار في سياسة تلبيس الطرابيش والعبث بالأرقام، تنتهي عندها هجمة مصرف لبنان المرتدّة قبل أن تبدأ، ويفقد ما تبقى من مصداقية، ويصبح مرماه مشرّعاً لتلقي الأهداف.