الترسيم: تهويل داخلي بنكهة “إسرائيلية”
“ليبانون ديبايت” – عبد الله قمح
لا تزال المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والعدو الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مجمّدة، وعلى الأرجح سيبقى الوضع على ما هو عليه، نظرياً، حتى يتم استرضاء العدو الإسرائيلي، وهي المهمة التي يُعمل لأجلها أكثر من طرف خارجي، وداخلي!
طبعاً الجانب اللبناني ليس معنياً بتقديم “جوائز ترضية” لصالح الطرف “الاسرائيلي”، مهم بلغ سعرها، حتى يتنازل عن تعنته الرافض لاستئناف المفاوضات، لطبيعة أن الجانب اللبناني يحوز الحجة، فما معنى أن يعرض بضاعة بالمجان لصالح الجانب “الإسرائيلي”، المتهم بسرقة مئات الكيلومترات المربعة البحرية التي تخفي تحت أطنابها مئات مليارات الدولارات؟
ثم أن تل أبيب تعلم، أن ما في حوذة الوفد اللبناني من خرائط، يكفل إنتزاع مساحات شاسعة من المياه البحرية تم السطو عليها في لحظة ضعف لبناني، أو على الأقل يجعل مستقبل التنقيب عن النفط في الأراضي المحتلة غير مضمون. لذلك، ثمة من يعتقد أن لدى تل أبيب مصلحة في تأخير التفاوض كي تنجز في الداخل، مسائل ذات علاقة باستئناف إرساء المناقصات على الشركات المرصودة لبناء المنشآت، لطبيعة إدراكها بسقف المطالب اللبنانية، وبالتالي، لن تعود إلى المفاوضات إلا في حالة واحدة: دفع بيروت إلى التراجع.
هنا مكمن “العطب اللبناني”، وحتى اليوم، وعلى الرغم من تقديم المستوى المفاوض خرائطه كاملة، والتي تكفل بل تثبت حقوقه في البحر، ما زال المستوى السياسي على اليابسة، يتعنّت في إصدار قرار تعديل المرسوم رقم 2011/6433 وتضمينه 1430 كلم2 إضافياً جنوبي النقطة 23، بما يضمن أيضاً تجميد أنشطة تلك الشركات، لأسباب سخيفة جداً، تتراوح بين الخلاف على أصل المرجعية المخوّلة البت بأمر التوقيع، وبين طلب تأمين إجماع داخلي، وبين تفضيل السير في مفاوضات على أصل خط “هوف” وليس أي إحتمال آخر.
وفي الحديث عن خط “هوف”، ثمة أكثر من خلل يُعمَل على تجاهله عمداً. ففي الأصل، خط هوف لم يُرسم بإعتماد قواعد قانونية، كما أنه يعطي الأفضلية للعدو، لكونه انطلق من مسافة 3 أميال من الشاطئ وليس من نقطة رأس الناقورة التي تبدأ بها الحدود البرية وفقاً لاتفاقية بوليه – نيوكومب العام 1923، ولكونه اتبع طريقة خط الوسط، مع إعطاء تأثير كلي لصخرة “تخيلت”. وكان تجاهل ترسيم الأميال الثلاثة الأولى من خط “هوف”، لمعرفته أن هذا الخط في بدايته يتّجه جنوباً، مما يؤدي إلى كشف منطقة “روش حنيكرا” السياحية، وهنا موضع الرفض “الإسرائيلي” لأسباب أمنية.
بهذا المعنى، يعطي “هوف” الأفضلية للعدو، ولو قبل به الجانب اللبناني حينها، لكان التفاوض اليوم يتم بين خط “هوف” الأميركي والخط 1 “الإسرائيلي”، كون العدو لم يُعطِ الموافقة النهائية عليه، بذريعة أن نسبة 10% من مستواه السياسي يرفضه. وعملياً، يجسد “هوف” مصلحة صهيونية بنسبة 100%، وفي المقابل، يغيّب المصلحة اللبنانية بنسبة 100%، وهي القاعدة التي انطلق منها سابقاً الوزير جبران باسيل حين كان وزيراً في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في رفضه القبول بـ”هوف” خلال جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 29/8/2012، مما قادَ لاحقاً إلى وقف العمل به.
في الواقع، لم يتوقع أكثر المتشائمين، أن يخفي الوفد اللبناني في جعبته “صواريخ دقيقة” على شكل خرائط، إستخدمها في لحظة تكتيكية مدروسة، مما أدى إلى إحباط مشروع “التسلّل” الصهيوني الذي كان تجري محاولة تمريره تحت ستار المفاوضات.
مع ذلك، انبرى حشد إعلامي في الداخل لإطلاق أعيرة القنص، من منابر سياسية ودبلوماسية عدة، على الوفد العسكري اللبناني المفاوض، وتحميله مسؤولية أي تأخير في إنجاز الإتفاق، مع العلم أن طرح رفع سقف حصة لبنان، يدفع إلى إيقاف العمل في التنقيب لدى الجانب “الإسرائيلي”، وليس اللبناني، حيث الأعمال فيه متوقفة أصلاً بسبب الإجراءات البيروقراطية!
وتل أبيب تدرك أن مسار انتظارها أي تغيّرات تأتي من على الجانب اللبناني، سيطول، بحكم ما في حوزة الوفد المكلّف أعمال التنقيب في التفاوض من إثباتات، وفي وقتٍ لا يبدي الوسيط الأميركي حسن النية، بل يتقاطع مع تل أبيب في ممارسة ضغوط “عبر الإعلام”، في محاولة منه لزعزغة ثقة الوفد المفاوض ومن يغطيه في الداخل.
وعلى امتداد الأيام، أضحى ما تقدّم به الوفد اللبناني على الطاولة، مادة تستقطب ردود الفعل المتنوّعة، وهو ما يستبطن محاولة لدفع الجانب اللبناني إلى التراجع عن مطالبه، سيّما عندما يتحوّل الأمر تدريجياً إلى ترفيع وجهة النظر “الإسرائيلية”، ومن ثم ممارسة التخويف على الداخل، من إمكان ضياع الإحتمال الضئيل الذي يكفل للبنان استخراج الثروات من البحر ما سيعود بالفائدة على الإقتصاد، كالإدعاء بأن المهمة ستطول وقد تأخذ 30 عاماً، رامياً بالأسباب على الوفد اللبناني المفاوض.
وخلال الأيام الماضية ظهر أكثر من مثل، وثمة من استدار في اتجاه محاولة خلق فجوات عدة في مسألة الترسيم البحرية، كي يخلق مبرّراً لجواز دحض الحقوق اللبنانية في المياه التي سلبها العدو، كالقول مثلاً بوجود مشكلة بين لبنان وقبرص، ويحق للبنان المطالبة بحوالي 2700 كلم2 إضافية، بينما المشكلة الحقيقية هي تحديد النقطة الثلاثية بين لبنان، قبرص وفلسطين المحتلة، والتي تم تحديدها خطأ في العام 2007 بالنقطة رقم 1، إلا أن هذه المشكلة تُحَلّ بعد إنهاء النزاع مع العدو الإسرائيلي، وفي حال تعنّت الجانب القبرصي، وهذا مستبعد، حينها يكون لكل حادث حديث. فهذه المشكلة مفتعلة إعلامياً، حيث أن مختلف المعطيات لا تشير إلى خلاف لبناني – قبرصي من هذا القبيل، وإن أياً من المصادر لم يتّضح لديه، ولو معطىً واضحاً، حول توجه لبناني لدعوة قبرص إلى مفاوضات، على غرار ما يحصل مع العدو، لطبيعة أن الطرف القبرصي كان قد أبلغ الجانب اللبناني منذ سنوات، عن استعداده لإعادة تحديد موقع النقطة الثلاثية متى اتفق الجانب اللبناني مع “الإسرائيلي” على نقاط محدّدة.
وتنسحب المسألة القبرصية على الشأن السوري، إذ في غمرة الضغط على بيروت من أجل التراجع عن سقفها، ثمة من يتعمّد التشويش، حين يدّعي بوجود توجهات لدى الطرف السوري لمناقشة أمر الترسيم مع الجانب اللبناني، برعاية موسكو، التي تولّت طرح الفكرة على النقاش، وهو أمر تنفيه مصادر على صلة بالملف، في ظل تأكيدها أن لا مشكلة في مناقشة الترسيم شمالاً، لا بل على العكس، يجب مناقشة هذا الموضوع والوصول إلى حل عادل ومنصف لترسيم الحدود البحرية مع سوريا. وفيما سخرت من ربط هذه الدعوة بخلفية التعرّض لصيادين يجتازون الحدود اللبنانية نحو سوريا، فتؤكد في هذا المقام، أن الجانب السوري نادراً ما يقوم بتوقيف مراكب صيد لبنانية إلا في حال دخولها لعدة أميال داخل المياه السورية.