دخلت الحياة السياسية اللبنانية مرحلة جديدة بعد الكلمة المفصلية والمدوّية التي أطلقها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والتفاعل الشعبي معها، ما يدل على أن لبنان أمام اختبار مهمّ لمرحلة مقبلة عنوانها إطلاق سيد الصرح معركة “الإستقلال الثالث”.
لم يمنع فيروس “كورونا” و”طحالب” التشويش من قِبل أحزاب السلطة من الزحف نحو الصرح البطريركي في سبت المبايعة الشعبية لمواقف الراعي، وتحت شعار “بكركي ما بتمزح” و”لكل إحتلال بطريرك” و”حرية حياد إستقرار” و”لبنان أولاً وأخيراً”، إمتلأت ساحات الصرح بالحشود من كل الطوائف، في حين أن عدداً كبيراً من الجماهير لم يستطع الوصول بسبب الزحمة الخانقة، فيما سار قسم آخر على الأقدام من جونية إلى بكركي، والجميع في انتظار كلمة سيّد الصرح.
كان لقاء السبت الشعبي حافلاً بالرسائل، فالرسالة الأولى أراد الشعب توجيهها إلى السياسيين، سواء كانوا في السلطة أو المعارضة، مفادها أننا شعب موحّد، فالحضور لم يقتصر على القلاع المارونية مثل بشري والعاقورة وزغرتا وتنورين وكسروان بل تعدّاه إلى كل المناطق والطوائف من عكار وصولاّ إلى الناقورة، خصوصاً وأن وفداً كبيراً من الشيعة المعارضين حضر لتأييد مواقف الراعي والقول “لن يرهبنا السلاح غير الشرعي وصفر خوف”.
أما الرسالة الثانية فتقول إن الشعب غير نائم وليس صحيحاً أنه غير مبال بوضع بلده وقد تخدّر، فعندما تحضر قيادة حقيقية تطرح طروحات إنقاذية فالساحات تمتلئ بالآلاف.
هذه الحالة تجسّدت السبت في بكركي، فالمسلمون قبل المسيحيين كانوا في طليعة المشاركين، والبطريرك الراعي لا يطمح لأي منصب ولا تهمّه الكراسي، بعكس من في السلطة الذين يحرقون البلد من أجل مصالحهم. ولم تقف الرسالة الشعبية عند السلطة بل وجّهها الشعب أيضاً إلى من يحاول ركب موجة الحراك وتنصيب نفسه قائداً للتحركات وهو لا يستطيع تحريك الجماهير، فأتته الرسالة الشعبية لتقول إن حسابات الصرح مختلفة عن مصالح من يطمح للفوز بمقعد نيابي أو وزاري ولا يقدّم طروحات جدية، ولا يلامس عمق المشكلة المتمثلة بسيطرة الدويلة على الدولة، فالراعي يحمل أمانة عمرها 1500 سنة ولن يُفرّط بالكيان اللبناني.
إذاً، فرض الراعي في خطاب السبت نفسه قائداً للشعب في وجه الطغاة الذين هم حكّام لبنان، لم يتراجع عن طروحاته المتعلقة بالحياد والمؤتمر الدولي الخاص بلبنان كما روّج “محور الممانعة”، داعياً إلى التصدي للإنقلاب على هوية لبنان والثورة وعدم السكوت عن التجاوزات والسلاح غير الشرعي والفساد والسرقة وطمس حقيقة إنفجار المرفأ، مطلقاً معركة إستعادة لبنان الذي هو مرج للسلام وليس ساحة للحروب، ومسترسلاً أكثر في شرح منطق الحياد وأهداف المؤتمر الدولي.
شكّلت كلمة الراعي وثيقة أساسية لقيام دولة عادلة وتحرير الكيان من الدويلات وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني لوحده، في حين أن الأنظار ستبقى موجّهة إلى كيفية تلقف الداخل والخارج مضمون صرخة “السبت”.
الشعب قال كلمته في بكركي هادفاً إلى تحرير لبنان من الإحتلال الإيراني ودويلة “حزب الله” والفاسدين، والبطريرك لاقى الحشود المتجمهرة، مؤكداً أنه لن يخيّب آمالهم وسيكون الأمين والحريص على تحقيق المطالب.
ومن المنتظر أن يتركّز حراك الراعي في الأيام والأسابيع المقبلة على إجراء عدد من اللقاءات مع سفراء الدول الفاعلة والمؤثرة كي يسلك الحياد والمؤتمر الدولي طريقه نحو التنفيذ، في وقت سيستقطب الصرح البطريركي عدداً من السياسيين اللبنانيين وسفراء الدول الأجنبية. وتردّدت كلمة البطريرك الراعي في عواصم القرار المتابعة للشأن اللبناني، سواء كانت عربية أو غربية، فالدول العربية لا تنظر إلى البطريرك على أنه بطريرك الموارنة، بل من موقعه الوطني المتقدم بحيث أن عدداً من السفراء أبلغوا الراعي بأن دولهم ستفعل كل ما تستطيع من أجل الوصول إلى تطبيق طروحاته الوطنية.
من جهة أخرى، فإن “حزب الله” نظر بعين الريبة إلى ما أطلقه الراعي، وهو يعرف أن مواجهة بكركي ليست نزهة أو كمواجهته مع أي قوّة سياسية أخرى، بل إنّ صوت الراعي مسموع من الشعب وقد حرّك الرأي العام ضد دويلته ومخططاته، كما أن لبكركي إمتدادات خارجية وعلاقات دولية، لذلك فقد يكون خطاب السبت أول مسمار يُدقّ في نعش مشروعه.