إيلي القصيفي – أساس ميديا
يومًا بعد يوم تكبر كرة الثلج حول دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى طرح “قضية لبنان في مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة”.
هذا الإقبال الشعبي والسياسي على الدعوة البطريركية يعكس أمرين: أوّلهما ثبات الثقة التاريخية لدى شرائح واسعة ومتنوعّة من اللبنانيين بالبطريركية المارونية، لاسيّما في وقت الأزمات الكبرى، وثانيهما انعدام الثقة الكبير والآخذ بالاتّساع بالسلطة السياسيّة الحالية بتراتبياتها الدستورية كافة.
والحال فقد تحوّل التداعي السياسي المتزامن مع انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، إلى دافع سياسي وشعبي باتجاه البطريركية المارونية التي لا شكّ أنّها باتت تشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها كمرجعية وطنية، تتطلّع غالبية اللبنانيين إليها بوصفها اليد التي تمتدّ إليهم لإنقاذهم من اللجّة العميقة التي دُفعوا إليها.
ولعلّ عجز السلطة، ولاسيّما رئيس الجمهورية بحكم موقعه السياسي والمعنوي، عن استنباط حلول للأزمة، في وقت يتواصل الخلاف على الحصص السياسيّة والطائفيّة داخل السلطة وكأنّ شيئًا لم يكن، كلّ ذلك زاد من الحافزيّة الشعبية والسياسية نحو الصرح البطريركي.
لقد بتنا إذًا بإزاء ديناميّتين متّصلتين بالطرح البطريركي، الأولى عن آفاق الطرح نفسه وتفاعله مع المشهد السياسي المحلّي والإقليمي والدولي، والثانية عن طبيعة الالتفاف السياسي والشعبي حول هذا الطرح. وهاتان الديناميتان مترابطتان إلى حدّ بعيد، أي أنّ واحدتهما تؤثّر في الأخرى وبالعكس.
لذلك فإنّ المعيار الذي على أساسه يتفاعل الوسط السياسي والشعبي مع الدعوة البطريركية، هو محدّد أساسي لآفاقها ولاتّساعها لتشمل أوسع فئات من المجتمع.
أي أنّ هذا المعيار هو في خروج المشهد البطريركي الحالي عن النمطية السياسية التي حكمت المشهد السياسي والوطني، لاسيّما منذ التسوية الرئاسية في العام 2016 والتي كرّست الاصطفاف الطائفي، بوصفه أمرًا صحيًّا لا بل صوّرته أنّه صنوُ الاستقرار وانعكاس لضرورات الميثاق الوطني.
بالتالي فإنّ التحدّي الرئيسي أمام الطرح البطريركي، هو في الخروج على هذه النمطية التي رتّبت وما تزال نتائج كارثية على البلد، باتجاه إعادة صياغة سردية سياسيّة تعيد التأكيد على الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، كناظمين وحيدين للحياة السياسية، لكي لا تبقى أسيرة موازين القوى المرتكزة على قوّة السلّاح، وأسيرة نظرية أن لا حلّ وطنيًّا لجميع اللبنانيين، بل هناك حلّ طائفي لكلّ طائفة على حدة.
فإذا كانت البطريركية المارونية مرجعية مسيحية عامّة ومارونية على وجه التحديد، فإنّ الرهان الأساسي اليوم، هو ألّا يجري تحويل دعوتها إلى مسيحية أو مارونية، بل أن تبقى وطنية عابرة للطوائف. فهذا عنصر نجاحها الأوّل وهذه الطريق الوحيدة لحمايتها من جهود إجهاضها ومنها إقحام البطريرك من جديد في المسألة الحكومية. وهو إقحام الغاية منه رسم حدود لدعوة الراعي وتقييدها في اللعبة الحكومية المسمومة.
فالدعوة البطريركية لا تعادي أحدًا لكن مع ذلك فإنّ أعداءها كثر.
إذّاك فقد شكّلت زيارة وفد من “لقاء سيدة الجبل” و”التجمّع الوطني” و”حركة المبادرة الوطنية” برهانًا على وطنية الدعوة البطريركية، إذ وصفّها أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيّد، في كلمته باسم الوفد، بأنّها ذات اتجاهين:
– اتجاه جميع اللبنانيين: كي يتضامنوا في تحرير الشرعية من تعددية السلاح والاستئثار بالقرار، والإصغاء لصيغة عيشهم المشترك بحماية وثيقة الوفاق الوطني والدستور.
– وفي اتجاه الأسرة الدولية: للوفاء بالتزاماتها نحو لبنان، ومنها تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسيادة لبنان، لا سيما القرار 1701 الذي نصّ في مقدمته على استناده إلى مرجعية اتفاق الطائف.
وسأل الدكتور السيّد: “كيف يقال إنّكم تسعَوْن للحرب والتدويل وتجاوز العقد الوطني، وقد صِغتم في عظتكم الأخيرة مطلبكم في جملة هي فصل الخطاب: “نريد مؤتمرًا دوليًّا خاصًّا بلبنان، لحماية وثيقة وفاقنا الوطني ودولتنا الواحدة السيدة المستقلة”.
هذا الكلام أثنى عليه البطريرك بتأكيده ارتكاز دعوته على ثلاث ثوابت: “الأولى وثيقة الوفاق الوطني التي صدرت عن اتفاق الطائف، ولا يتم تنفيذها لا روحًا ولا نصًّا، الثانية الدستور، أمّا الثالثة فهي الميثاق الوطني الذي حدّده اتفاق الطائف، ميثاق العيش معًا، وأنّ لبنان هو وطننا النهائي”.
هذه الثوابت الثلاث لخّصها الراعي في جملة مفادها: “أنّنا نستعيد هويتنا ولسنا بصدد خلق شيء جديد”. وهو بذلك يؤّكد على انطلاق دعوته إلى مؤتمر دولي لطرح قضية لبنان من ثوابت وطنية قوامها الأساسي وثيقة الوفاق الوطني. أي أنّ الهدف من دعوته ليس البحث عن حلّ للأزمة اللبنانية بدفتر شروط خارجي، يُترجم في البحث عن صيغة حكم جديدة، بل إنّ غايتها تحصين الدستور و”اتفاق الطائف” كنصّين وحيدين ناظمين للحياة السياسية والوطنية أي للعقد الاجتماعي بين اللبنانيين.
ومن ذلك دعوة البطريرك “كلّ فريق إلى وضع ورقة حول مشكلتنا في لبنان لتقديمها ورقة واحدة إلى الأمم المتحدة، من دون الرجوع إلى أيّ دولة للسؤال عن الحلّ ورأيها به، إنّما من خلال طرح المشكلة وطلب المساعدة لها”. وهو بذلك أوضح مرّة إضافية أنّ اللجوء إلى المجتمع الدولي ليس للطلب إليه إيجاد حلّ للأزمة اللبنانية، بل لطلب مساعدته للتوصّل إلى هذا الحلّ.
أي أنّ البطريرك منفتح على تصوّرات كلّ الأفرقاء اللبنانيين للحلّ، لتضمينها في ورقة واحدة تُرفع إلى الأمم المتحدة لطلب مساعدتها في رعاية حلّ للأزمة. بمعنى أنّ البطريرك ينطلق من الداخل إلى الخارج وليس العكس. لكنّ السؤال: هل يمتلك الأفرقاء تصوّرًا للحل؟ وتحديدًا هل يمتلك تصوّرًا للحلّ حزبُ الله الذي كان عالي الصوت في رفض دعوة البطريرك؟
لذلك فإنّ الدعوة البطريركية امتحان لجدّية القوى السياسية في سعيها للخروج من الأزمة.
وفي المحصّلة وأيًّا تكن المسارات التي سيسلكها الطرح البطريركي، فهو رسم معالم إطار سياسي وطني يرتكز على الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، في مقابل الدعوات والمساعي الحثيثة للانقلاب عليهما.
لذلك فإنّ الدعوة إلى جبهة وطنية عريضة لتحرير الشرعية، والحياد الإيجابي، والمؤتمر الدولي من أجل الطائف والدستور، وقرارات الشرعية الدولية من أجل لبنان، هي دعوة ترتكز على أسباب موجِبة وعلى قابلية وطنية قوامها الطرح البطريركي.
وهذا ما يفسّر الحملة على الدعوة البطريركية التي، وإن خفتت إعلاميًّا، إلا أنّ هذا لا يعني أنّها توقّفت، بل إنّ مساعي خصومها مستمرّة لإجهاضها، ولذلك يجب حمايتها من قبل البطريركية نفسها ومن جانب المؤيّدين لها، وذلك بتأكيد وطنيتها المرتكزة على الدستور واتفاق الطائف.
هذا هو التحدّي السياسي والوطني الأساسي الآن.