الأخبار- ابراهيم الأمين
ولندَع جانباً كلّ التطلّعات عند الراغبين بتغيير الوقائع السياسية القائمة على صعيد تركيبة السلطة وموقع القرار.
ولندَع جانباً عمل المستشارين التاريخيّين أو المستجدين، أو من المتطوعين لحبّ لبنان الكبير.
ولندَع جانباً، حتى الطموح الشخصي للبطريرك بشارة الراعي نفسه، بلعب دور استثنائيّ يجعله في مصاف آخرين من أسلافه الذين رُفعت صورهم في حفلة السبت، باعتبارهم مصدر الحريّة الحقيقيّة.
ولندَع جانباً حتى ألاعيب «جل الديب» التي تبدأ بالشعارات والهتافات، مروراً بلعبة التعمية على تركيبة الحضور ومصادر حشده.
ولنذهب مباشرة إلى صاحب المناسبة ونسأله على سبيل الاستيضاح لا أكثر:
أولاً: إن شعار الحياد، بمعزل عن قبحه، يمثّل استراتيجية متكاملة لها بعدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري أيضاً، ولها آلياتها التي تقوم على وحدة وطنيّة متكاملة، وتفاهم حقيقيّ لا صوريّ على مفهوم للهوية الوطنية. ومجرّد القيام بمراجعة تاريخيّة تعود حتى إلى قرنين، يتّضح لكلّ باحث أن الحياد لم يكُن يوماً ليقوم بمجرّد إبداء الرغبة. فالحياد مثل الزواج، لا يمكن أن يتحقّق بمجرّد أن أعجِبتَ بصبية وأقنعتَ والدَيك والجيران وحتى الشيخ… هل سألتها إنْ كانت موافقة أولاً؟
ثانياً: إن من يرفع شعار الحياد، يكون قوياً جداً، حتى يقدر على حماية قراره بالحياد. لكن في حالة الضعف، التي تصيب هذه البلاد أولاً، وتصيب رافعي الشعار نفسه، تتحول إلى مطلب حماية ووصاية، لا إلى مطلب حياد. في حالة لبنان وحالة من ينطق الراعي باسمهم، الحياد يعني مناجاة طرف قوي، خارجي بالتأكيد، أن يحضر ليفرض علينا الحياد. والخارج لا يعمل مجاناً. هكذا علّمنا التاريخ. وعندما تطلب من خارجٍ ما أن يوفّر لك الحماية والحياد، فهذا يعني أنك ستكون في فلكه… وعندها، عن أيّ حياد تتحدث؟
ثالثاً: إن جوهر الموقف الذي يقف خلف فكرة الحياد، لا يمكن أن تغطّيه بعبارات وشعارات لم تعُد تصلح لأيّ نوع من الاستهلاك السياسي. إن جوهر الموقف في حالتنا هذه، هو أن الفريق المطالِب بالحياد، يشعر بأنه مطرود من جنة الحكم، أو أنه خائف على مصيره أو دوره، أو أنه يشعر بإحباط العاجز عن القيام بأمر يمنحه فرصة تغيير الوقائع القائمة. وفي حالتنا، فإن رافعي شعار الحياد، هم الذين يريدون فعلاً ما قاله الراعي في شرحه لما أسماه المطالب من المؤتمر الدولي وتدخل العالم، وهو محصور في أمور محدّدة، أساسها فرض الوصاية الدولية على الإدارة العامة للدولة، لأن الحكم والسلطة عندنا فشلا والفساد يحكم. وبالتالي، لا بدّ من مدّ يدٍ لطلب المساعدة، بما يسمح بأن يقبلنا العالم عاملين في مصانعه ومؤسّساته حتى يعطينا خبزنا كفاف يومنا، على أن نمنحه في المقابل السلطة التنفيذية لإدارة ما بقي من موارد الدولة. ثم إنه دعوة للعالم بأن يفرض علينا طريقة إدارة مصالحنا الخارجية مع جيراننا، سواء كانوا أشقاء أو أعداء. ومع هذا الطرح، يكون اقتراح انضواء المقاومة ضمن الجيش اللبناني مجرد دخان، فيما الهدف الفعليّ هو التخلص من المقاومة، والحجة هنا، أن الحياد لا يتطلّب وجود قوة عسكرية تمنع الأعداء من النيل من بلادنا، أو حتى تمنع الأشقاء والأصدقاء من التحرش بنا. وفوق كلّ ذلك، فإن المؤتمر الدولي لا يمكن أن يُنتج غير صيغة لحكم طائفيّ جديد، توزّع فيه المصالح وفق نسب لا نعرف كيف ستتم مع التغييرات الحاصلة على أكثر من صعيد.. ألم يتّعظ أحد من مطالعة إيمانويل ماكرون في لقاءات قصر الصنوبر عن وقائع التمثيل الشعبي في لبنان؟
هل يمكن للبطريرك أن يكون أكثر تواضعاً، وأن يشرح لنا كيف يقول إنه ينطق باسم جميع أو غالبية اللبنانيين؟
رابعاً: هل يمكن للبطريرك أن يكون أكثر تواضعاً، وأن يشرح لنا كيف يقول إنه ينطق باسم جميع أو غالبية اللبنانيين، وهو لم يحظَ أصلاً بموافقة أو تغطية جميع أو غالبية المسيحيين أصلاً، ليس السياسيون منهم حصراً، بل حتى المرجعيات الدينية أيضاً؟ وبالتالي، فإن موقف بكركي يعبّر عنها وحدها، ولا يمكنها – من أجل أن لا تخطئ الحسابات – أن تدّعي النطق باسم أكثر مِن مَن باركوا ما قام ويقوم به الراعي وصحبه.
خامساً: إن الفكرة من أساسها، من الخطاب والبرنامج إلى الاحتشاد والحفل وما سنشهده لاحقاً، كل ذلك لا يكفي لفرض وقائع جديدة. سيكون هناك مؤتمرات وقيام أطر ولقاءات وتجمعات، وستصدر بيانات ومواقف وتصريحات وتعجّ المنابر بالخطباء. لكن، هل كل ذلك يكفي لعكس الوقائع الصلبة، بمعزل عن جودتها أو رداءتها؟ ألم نتعلم من آخر دروس الفوضى الشعبوية التي رافقت البلاد منذ 17 تشرين؟ هل يعتقد الراعي أنه ينطق بربع من نطق باسمهم شارع 17 تشرين؟ لكن إلى ماذا انتهى؟ هل صحيح أن اعتقالات «عادية» ومطاردات أمنية من شأنها كبح جماح ثورة شعبية، أم أن خللاً جوهرياً أصاب هذا الحراك فانتهى إلى ما انتهى إليه، قبل أن يأتي سبت بكركي ليقضي عليه نهائياً؟
سادساً: إذا كانت بكركي تشعر بالقلق على المسيحيين أو على لبنان، وإذا كانت تعتقد أن عليها القيام بدور ما، فلماذا تقبل أن تتحوّل إلى طرف خلافيّ؟ هل في بكركي من يصدّق أن الغالبية اللبنانية، طائفية أو مدنية أو عقائدية، ستقبل بأن تكون بكركي قائدة لها أو ناطقة باسمها؟ أم أن الراعي سيقبل، راغباً أو مُرغماً، بأن ينتهي به الأمر ممثّلاً لفئة محدّدة من المسيحيين لا أكثر؟
سابعاً: إن الراعي يمثّل في موقفه رأي الكنيسة التي يقف على رأسها. وهي كنيسة تخصّ مؤمنين مسيحيين ينتشرون في أنطاكية وسائر المشرق. وهو بالتالي، يتحمّل مسؤولية معنويّة عن جميع رعايا هذه الكنيسة. وعندما يوحي بأنه يتحدث باسم المسيحيين عموماً، فعليه أن يتحمّل مسوؤلية معنوية وربما أكثر عن المسيحيين المنتشرين من الأردن إلى فلسطين إلى سوريا والعراق… فهلّا يقول لنا كيف سيكون عليه موقفه من أحوالهم في ظل ما يتعرّضون له منذ سبعة عقود على الأقل؟ أم سيطلب منهم التزام الحياد أيضاً تجاه الاحتلال الصهيوني والتهديد التكفيري أو في مواجهة أنظمة القمع والاستبداد؟ أم أنه يعكس استراتيجية الفاتكيان باعتبارها تمثّل – فعلاً لا قولاً – موقع «الوليّ الفقيه» للكنيسة في لبنان، وهي من اختارت أصلاً الراعي، وتقدر على عزله في لحظات، أفلا يسأل البطريرك وفريقه أنفسهم عن أيّ حياد يتحدثون فيما هم لا يقدرون على الذهاب نحو دولة مدنيّة تمنع ربط مصير زواج أو طلاق بقرار من روما؟
ثامناً: إن نقاشاً كبيراً سيحصل في البلاد، وسنشهد «طلعات ونزلات» وتوترات وانفعالات وخطابات ومواقف وردود وخلافه، لكن، ما يفترض بالكنيسة وبالراعي الإجابة عليه وسريعاً والتصرف على أساسه: كيف تكون شريكاً حقيقياً وفق ما تمثله فعلياً، وليس وفق ما تعتقد إنك تمثله، أو وفق ما قرر أحد ما أنك تمثله؟
أفضل ما في الأمر الآن هو الهدوء، وعدم الانفعال، ومراجعة تاريخ مئتي عام من طلب الحماية الخارجية، وما هي نتائج ذلك على هذه البلاد أولاً، وعلى من يقول الراعي إنه ينطق باسمهم ثانياً. وإلى ذلك الحين، فليأتِنا الراعي بأمرَين: الأول، تصوّره العملاني لمعالجة التهديدات الإسرائيلية على بلادنا، وإعادة الفلسطينيين إلى بلادهم. وآلية لضمان عودة النازحين السوريين. والثاني: كيف تطوّر الكنيسة دورها في التكافل الاجتماعي مع المقهورين من رعاياها اليوم في لبنان، وأن تتجرّأ هذه الكنيسة لمرة واحدة، على اتّخاذ قرار باستخدام جزء ولو بسيط مما تكدسه من ثروات من أجل تثبيت القوم في أرضهم، قبل الحديث عن أيّ حكم يختارونه!