أساس ميديا – أساس ميديا
إلى لا شيء، انتهى الأسبوع الأول من التشويق حول مضمون تقرير الإستخبارات المركزية الأميركية عن جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول.
لم يحمل المضمون أي جديد عما سُرّب في السابق. لا بل إنّ ما حمله التقرير أقل بكثير مما قيل إنّه سيصدر. لم يطرح أمام الرأي العام أيّ دليل حسي، كرسالة نصية أو اتصال أو مقطع صوتي أو فيديو، يثبت أنّ الأوامر بالقتل صدرت عن الأمير محمد بن سلمان.
تقرير الـ”CIA” هو “تقييم”، كما وصفَ نفسَهُ، وليس لائحة أدلّة. و”التقييم” قاد واضعي التقرير إلى الاستنتاج، بناءً على معرفتهم بآليات اتّخاذ القرار في السعودية، وتقييم آخر لشخصية محمد بن سلمان، إلى أنّ أمر القتل أو الاختطاف لا بدّ أن يكون قد صدر عن الأمير محمد. وهنا ضعف آخر يعتري القيمة المعلوماتية لتقرير الـ “CIA”، إذ أنّه لم يستطِع الجزم بطبيعة النية الجرمية، ما إذا كانت الخطف أو القتل.
أضف إلى ذلك أنّ المحكمة الدولية في جريمة بحجم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي المثال الأكثر سطوعاً على “العدالة الدولية” في مطلع هذا القرن، خلصت إلى أنّ سليم عياش، القيادي في حزب الله، هو المسؤول الوحيد عن الجريمة، من دون إدانة رؤسائه المباشرين في الجهاز الأمني، ولا الأمين العام لحزب الله، بصفه رئيسه الأعلى، ولا الرئيس بشار الأسد بصفتهِ المرجع الأعلى لواقع الأمر المخابراتي الذي كان قائماً في لبنان عند حصول الجريمة، ولا المرشد علي الخامنئي، الذي يتبع حزب الله لأمرته، بحسب تصريحات معلنة لنصر الله. وهي الخلاصة التي تؤكّد ما قيل عن اتفاق سياسي بين جميع الأطراف الدولية المعنية بتشكيل المحكمة الدولية، بتحييد قادة حزب الله وسوريا وإيران عن مسار المحكمة.
“الجريمة وقعت وأقرّت المملكة العربية السعودية بالمسؤولية المعنوية عنها تصريحاً بلسان الأمير محمد بن سلمان، وجرت محاكمة نتجت عنها أحكام بإدانة البعض وتبرئة الآخر”، هكذا بدأ الأمير بندر بن سلطان حديثه لـ”أساس” في قراءة شخصية لمسار الأحداث. ويضيف الأمير بندر: “في السعودية مستوىً ثانٍ في التعامل مع مثل هذ القضايا يتّصل بموقف عائلة الضحية، التي في حالة المرحوم جمال خاشقجي، طلبت بكامل إرادتها أن تخفّف الأحكام من الإعدام إلى المؤبّد، وهذا ما حصل، ولو لم يطلبوا ذلك لكانت أحكام الإعدام نُفّذت بحسب القضاء والشرع”…
يقول الأمير بندر، السفير الأشهر في واشنطن ورئيس المخابرات السعودي السابق: “هذا هو السياق العام والموضوعي لكيفية تعامل السعودية مع هذه الجريمة التي آلمت بكلّ السعوديين، أما ما بقي من تقارير وكلام إعلامي وسياسي فجلّه دخل في منطق التحليل والتقييم والافتراض وبناء الاستنتاجات، وغالباً وفق أحكام مسبقة ومواقف عقلية ونفسية وسياسية من المملكة العربية السعودية عامةً، وهي مواقف متبلورة منذ ما قبل الجريمة وربما وجدت في الجريمة فرصة للتعبير عن نفسها”.
يستذكر الأمير بندر “حوادث كثيرة انطوت على جرائم ارتكبها ضبّاط كبار أو جنود أميركيون، في سياق عمليات عسكرية أو أمنية حاصلة على جواز من أعلى السلطات الأميركية، بيد أنّ ذلك لم يعنِ أنّ المسؤول عن هذه الجرائم هو الرئيس الأميركي بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلّحة”.
“خذ مثالاً على ذلك حادثة سجن أبو غريب”، يقول الأمير بندر، ويضيف: “فكرة السجون السرية أو تغيير قواعد التحقيق مع الإرهابيين بعد أحداث 11 أيلول 2001، هي سياسة أميركية أجازتها السلطات الأميركية، وولدت من رحم التفكير في الدائرة الضيقة للرئيس جورج دبليو بوش يومها ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد وبعض المستشارين الرفيعين في الإدارة. فضيحة “سجن أبو غريب” التي نتجت عن هذه السياسة، المُجازة من الرئيس مرة أخرى، كانت شذوذاً عن مقاصد هذه السياسة، وخللاً خطيراً في إدارتها.. ولكن لنسأل، هل وفق ما نعرفه اليوم عن كيفية ولادة هذه السياسة، وآلية اتّخاذ القرار بشأنها، ودقّة متابعتها من أرفع المسؤولين في مجتمعي الاستخبارات والدفاع الأميركيين، يعني أنّ الرئيس الأميركي أو وزير دفاعه، مسؤول مباشرة عن الجرائم بالمعنى الجنائي؟”… “بالطبع لا”، يجيب الأمير بندر، لكنّهم يتحملون المسؤولية المعنوية نفسها التي تحملتها الدولة السعودية بكلّ شجاعة..
ويذكِّر الأمير بندر أنّ “الولايات المتحدة لطالما تمسّكت بحقّها السيادي في رفض محاكمة جنود أميركيين أمام قضاء غير القضاء الاميركي، حتّى قضاء الحلفاء، كما في حادثة شهيرة مع بريطانيا”.. ويشرح الأمير أنّ “الأصل في هذا الموقف هو الاعتبار السيادي للدولة وليس الثقة أو عدم الثقة بالقضاء الآخر”. ويضيف أنّ “السعودية، وفق حقّها السيادي ومسؤوليتها كدولة وكعضو شرعي في المجتمع الدولي، قامت بما تقوم به أيّ دولة من تحقيق ومحاكمة وأحكام، ومن وجهة نظري الشخصية، باتت القضية مغلقة ما لم تظهر أدلّة جديدة أمام القضاء السعودي”.
ويجزم الأمير بندر بهدوء أنّ “كلّ استثمار فيها هو استثمار سياسي، يتم وفق حاجات أو مواقف سياسية وهذا أمر لم ولن يكون غريباً عن العلاقات الدولية، وكلّ دولة تتفاعل معه وفق مصالحها السياسية والأمنية والدبلوماسية”.