شكّلت اسرائيل منذ العام 1948 مصدر قلق للبنانيين وتهديداً مباشراً تجلّى من خلال الاجتياحات والاعتداءات المُتتالية. وقد نجحت في السبعينيات من القرن المنصرم في استغلال مَكامن ضعف الوحدة الوطنية، لتساهم في تأجيج الصراعات الطائفية، على أثر الدخول المباشر لمنظمة التحرير الفلسطينية على خط الأزمة الوطنية، امّا الهدف فكان تحويل لبنان وبالأخص المناطق ذات الغالبية المسيحيّة وطناً بديلاً عن فلسطين، تتمركز فيها منظّمة التحرير ومئات الآلاف من اللاجئين، ليتحول لاحقاً الى مشروع توطين تُستملك من خلاله الارض والديمغرافيا. قاتَل المسيحيون هذا المشروع وتراجعت فرص نجاحه بسبب عوامل عديدة، اهمّها انتشار المسيحيين على مساحة الوطن وتعدّد مساحات تأثيرهم ونفوذهم على كامل ربوعه، وهي وضعية امتازوا بها منذ ولادة لبنان الكبير، وشكّلت الى جانب الديمغرافيا، نقاط القوّة وتأثيراً في صيانة دورهم ووجودهم.
انطلاقاً من استراتيجيّة اسرائيل المركزيّة في مُتابعتها للملفّ اللّبناني والمرتكزة على هدفين أساسيّين مرتبطين ببقائها كدولة فاعلة وآمنة في المنطقة، وهما توطين الفلسطينيّين في لبنان وتقسيمه الى كانتونات طائفيّة متقاتلة وغير مستقرّة، فكان من أهداف عملية «سلام الجليل» عام 1982 الى جانب إبعاد منظمة التحرير عن حدودها، الحدّ من انتشارية المسيحيّين تحضيراً لحصرهم في منطقة جغرافيّة محدّدة، أي جبل لبنان، خدمة لمشروع التجزئة أو التقسيم. لذلك قامت بانسحاب مشبوه من الشوف والجبل، بطريقة مدروسة، أدّت الى انهيار كافة الجبهات وتهجير المسيحيين من الجبل وشرق صيدا. ومع هذا الفرز الديموغرافي الواضح المعالم، فقد المسيحيّون عنصراً مهمّاً من عناصر قوّتهم، كما وأصبحت البيئة الجغرافيّة والديمغرافيّة مُهيّأة لمشروع التوطين والتجزئة، ليأتي العرض رسمياً عام 2020، وفي بنود نصّ «صفقة القَرن»، حيث حُدّدت مبالغ ماليّة لدول الطوق من ضمنها لبنان، مقابل توطين الفلسطينيّين.
تشكّل اسرائيل نموذجاً للدولة العنصرية المناقضة للتعدّديّة، وهي تسعى أن يُعمَّم هذا النموذج على سائر الدول المحيطة، لتبرير وجودها ضمن منظومة دول طائفيّة صغيرة، تبقى عاجزة عن تهديد أمن اسرائيل، فعناصر هذه المنظومة تصبح ضعيفة وتعتمد استراتيجيّة دفاعيّة من دون أي قدرة هجوميّة بسبب عجزها الاقتصادي وعديد جيوشها المحدود، أمّا تعطيل قدرتها الدفاعيّة فتتولّى امره الولايات المتحدة الأميركيّة من خلال حجب الأسلحة النوعيّة الفعّالة، تماماً كما هو حاصل مع الجيش اللّبناني، فتؤمّن هذه الدويلات عامل اطمئنان للدولة العبريّة. ولتحقيق ذلك ينبغي على مجتمعات الأوطان المحيطة بإسرائيل أن تكون منقسمة وفي حالة تقاتل، ومطالبة مستمرّة بالانفصال الكامل، تماماً كما حصل في لبنان أثناء الحرب، وما حصل في سوريا والعراق أخيراً وما يحصل اليوم في لبنان من خلال انتشار النزعات الفدراليّة.
إنّ على اللّبنانيّين التنبّه أيضاً للمخاطر الاقتصادية جرّاء التنافس على الدور في المنطقة. فإسرائيل تطمح الى وقف التنقيب عن الغاز في لبنان. لهذه الغاية تستعمل الديبلوماسيّة الأميركيّة تماماً كما حصل عام 2020، عندما ضغطت الولايات المتحدة الأميركيّة لِمنع مُواصلة بًرنامج التنقيب. من جِهةٍ أُخرى تسعى إسرائيل الى ضرب السياحة في لبنان، كذلك النقل والترانزيت، وبالتالي ملء هذا الفراغ تجاه شركائها الجُدد بعد التطبيع مع جزء من الدول العربيّة.
على اللبنانيين تخطّي كلّ الخلافات الداخليّة والتوحّد في مواجهة الخطر الإستراتيجي المشترك، المتمثّل بالتهديد الإسرائيلي المُستمرّ واحتلالها لأجزاء كبيرة من الأراضي اللّبنانيّة في شِبعا وكفرشوبا وقرية الغجر. لكن، ثمة مقاربة مسيحية خاطئة للملف الإسرائيلي، وهي مبنية على فترة الحرب اللبنانية. فالذاكرة الجماعية المسيحية تغض النظر عن تدخّل سوريا لصالح مسيحيي لبنان عام 1976، بعد ان كان الفلسطينيون والحركة الوطنية قد سيطروا على 82% من مساحة لبنان وباتوا على مسافة قصيرة جداً من تحقيق الانتصار، وتعتبر انّ عملية «سلام الجليل» حققت مصالحهم، كما تغضّ النظر عن الفكر المسيحي المشرقي الذي كان يعتبر اسرائيل خطراً محدقاً على المنطقة وعلى الحدود اللّبنانيّة بشكل خاص. فالحدود فكرة مسيحيّة نجح البطريرك الحويّك بتحقيقها وإقناع المجتمع الدولي بها، بعد أن كان الأميركيون من خلال لجنة « كينغ كراين» قد وجدوا أنّ غالبيّة اللّبنانيّين وخصوصاً سكّان مدن الساحل، لا يوافقون على هذه الحدود، ويومها عارض اليهود، واعتبروا انّ خطّ بنياس -اللّيطاني هو حدود اسرائيل التوراتيّة. هم يريدون المياه والغاز، وقد يصل بهم الأمر الى المطالبة بإسرائيل الممتدّة من الفرات الى النيل فلا لبنان، ولا مسيحيّين في العقل الاسرائيلي.
انطلاقاً من هذه الحقائق التاريخيّة، على المسيحيّين العودة الى الثوابت الأساسيّة، القائمة على المطالبة بحلّ الدولتين، الذي يؤمّن استمرار قضيّة حقّ العودة، واعتبار اسرائيل المعلنة حديثاً دولة يهوديّة خطراً على النموذج اللّبناني الذي تحدّث عنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. وعليهم أيضاً المطالبة بوضع القدس تحت ادارة دولية، تؤمّن حقوق الأديان السماويّة، فحق الحج الى الأماكن المقدّسة، يجب أن يكون مصاناً على الرغم من اعتبار اسرائيل هذه الأماكن غير مقدّسة وتشكّل انتهاكاً لمعتقداتها الدينية.
انّ مكافحة التطبيع وتوعية الأجيال الصاعدة على مخاطره يجب ان تكونا أولوية وطنية استراتيجية، من دونهما سيواجه اللبنانيون بشكل عام والمسيحيون بشكل خاص، خطراً محدقاً على وجودهم، في وطن قدّموا في سبيله أغلى التضحيات.