فاجأ الرئيس الاميركي جو بايدن الشرق الاوسط بخطوتين قويتين متتاليتين، واحدة سياسية صاعقة باتجاه السعودية وثانية عسكرية مركزة استهدفت مواقع لمجموعات موالية لإيران مهمتها تأمين الامدادات البرية بين العراق وسوريا. والمفاجئ انّ الخطوتين نفذتا في مرحلة يطغى عليها مناخ العودة الى طاولة المفاوضات بين الاميركيين والايرانيين للعودة الى الاتفاق النووي.
في الواقع لم تتفاجأ كثيراً الاوساط الديبلوماسية الاميركية، لأنها على بيّنة من انّ ادارة بايدن كانت قد قررت منذ لحظة تسلمها مهامها الرسمية في 20 كانون الثاني الماضي ان تدشّن دخولها السياسي الى الشرق الاوسط بخطوات هجومية كبيرة. ذلك انّ الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب كان قد نجح خلال حملاته الانتخابية في وصف منافسه جو بايدن بالضعف.
وفي وقت يتجدّد الصراع الداخلي ويظهر تعاظم نفوذ ترامب على الحزب الجمهوري، كان لا بد لإدارة بايدن من ان تتخذ قرارات قوية لتبديد صورة الضعف وإزالتها. ففي مؤتمر الحزب الجمهوري أظهرت الارقام انّ ترامب يحظى بتأييد 81 % من الجمهوريين وانه سيعمل اولاً على إقصاء اخصامه داخل الحزب، وثانياً على التحضير للانتخابات النصفية اواخر العام المقبل لانتزاع الاغلبية من الديموقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ. لكنّ هذا الدافع على أهميته لا يختصر ابداً الاهداف المتوخّاة مما حصل، فهنالك ما هو اهم وابعد واعمق.
فعلى صعيد السعودية بداية، كان الموقف الاميركي صاعقاً وهو الاول من نوعه ربما منذ اتفاق 14 شباط 1945 بين الرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود على متن الطراد يو أس أي كوينسي.
صحيح أنّ أزمة وقف امدادات النفط عام 1973 ايام الملك فيصل كانت في غاية الدقة يومها، لكن ما يحصل اليوم يحمل منحى آخر.
في الواقع، عدا صورة القوة التي يريدها بايدن، هناك اهداف اخرى تختبئ وراء السلوك الاميركي.
1 – في العام 1945 ارتكز الاتفاق التاريخي بين البلدين على معادلة واضحة: الامن مقابل اسواق نفط مستقرة ومدروسة. وهذا ما جعل السعودية تحتل مرتبة التحالف الاول مع الولايات المتحدة الاميركية طوال العقود السابقة، لكن وفي المرحلة الماضية وبعد اكتشاف ما عرف بحقول النفط الصخري على الاراضي الاميركية، اصبح هنالك نوع من الاكتفاء الذاتي الاميركي، وبالتالي تضاؤل اعتماد واشنطن على نفط الشرق الاوسط. لكن هذا لا يعني ابداً خروج السعودية من دائرة الاهتمام الاستراتيجي الاميركي في العالم. فحقول النفط السعودية تبقى مصدر الطاقة الوحيد للعديد من دول العالم، خصوصاً تلك التي تشكّل مصدر منافسة للولايات المتحدة، ما يعني انّ الامساك بمصادر الطاقة لهذه الدول يعطي الولايات المتحدة الاميركية اوراق نفوذ هائلة على الخارطة العالمية، لذلك مثلاً تتواجد دائماً حاملات الطائرات الضخمة والاساطيل الحربية الاميركية في البحر القريب من السعودية بذريعة تأمين الممرات المائية والبحرية لتصدير النفط، فيما هي في الحقيقة لتأمين السيطرة الاميركية عليها.
ويقول السفير الاميركي دينيس روس في هذا المجال انه ما زالت لواشنطن مصالح فعلية في السعودية، حيث ليس هنالك مشكلة مهمة في الشرق الاوسط يمكن تحقيق استراتيجية ناجحة الّا بدعمٍ فاعل من الرياض، كمثل احتواء ايران الى محاربة الارهاب الى البناء على التطبيع مع اسرائييل وكسر الجمود بين الاسرائيليين والفلسطينيين ومحاولة إنهاء الصراعات في اليمن وسوريا، او تبريرها. كما انّ واشنطن بحاجة للتعاون دائماً مع السعودية للسيطرة على اسعار النفط.
2 – تدرك واشنطن والرياض على السواء انّ المطلوب إعادة صياغة برنامج عمل جديد بين البلدين يتلاءم والمتغيرات الحاصلة، وأن محادثات سرية ستحصل بين موفد لبايدن وولي العهد محمد بن سلمان على أغلب الظن لإعادة ضبط حدود العلاقة بين البلدين. وستنتهي هذه المحادثات بالاتفاق على سلوك جديد لولي العهد واتفاقات مالية كبيرة.
3 – وهو ربما السبب الاهم، وهو يتعلق بالعلاقة الخاصة القائمة بين محمد بن سلمان والرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، وهو ما يعني مسألتين: الاولى قطع كل انواع الدعم المالي من ولي العهد السعودي لترامب العازم على العودة الى البيت الابيض، والثاني وهو الاحتراس سلفاً من اية مفاجآت غير سارة قد تقدم عليها الرياض على ابواب المفاوضات مع ايران بهدف التفكير والتشويش عليها، ربما بالواسطة.
هذا على الصعيد السعودي، أما على صعيد الغارة الاميركية والتي استهدفت طريق الامدادات البرية بين ايران فالعراق فسوريا، ودمّرت منشآت، فإنّ التحرك العسكري جاء رداً على الاستهداف الصاروخي أربيل، والذي تعتقد واشنطن انه من تنفيذ تنظيم «عصائب اهل الحق» الموالية لإيران.
وقرأت واشنطن في الهجوم الصاروخي اختباراً حازماً لمدى جدية بايدن، فكان الجواب من خلال القصف الجوي الاميركي، والذي كان مدروساً بشكل جيد. اي كان الهدف إرسال رسالة جوابية من خلال هدف اختير بعناية.
فصحيح انّ قوة التدمير تكون قوية لكن محسوبة بشكل لا تخرج فيه الاوضاع عن السيطرة، وربما لذلك جرى إلغاء الغارة الثانية في اللحظات الاخيرة كما اوردت الصحف الاميركية.
وقد تكون الرسالة الاميركية واضحة لناحية عدم قدرة ادارة بايدن على تحمّل استنزاف عسكري، ولكن في الوقت نفسه جديتها الفائقة في انجاز الاتفاق النووي مع طهران من ضمن مهلة زمنية محدودة قبل الاستدارة والانشغال بمهمة احتواء التمدد الصيني.
وثمة رسالة أخرى تعمل واشنطن على ارسالها من خلال العراق، فظهر يوم الجمعة المقبل يبدأ رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا فرنسيس زيارته الى العراق، وهي اول زيارة خارجية له منذ ظهور جائحة كورونا. وخلال هذه الزيارة التي تشمل بغداد والموصل ومدينة اور الاثرية مسقط رأس النبي ابراهيم وسهل نينوى واربيل، سيكون للبابا لقاء مهم جداً مع المرجع الروحي الشيعي السيد علي سيستاني في مدينة النجف. وسيجري توقيع «وثيقة الاخاء» بين الطرفين. وخلال الايام الماضية وصلت الى الاجهزة الامنية الاميركية معلومات عن وجود مخطط امني لاستهداف البابا. لذلك أبلغت السلطات الاميركية مسؤولي الفاتيكان وكذلك المسؤولين العراقيين بأنها ستتولى الاشراف على الرعاية الامنية للزيارة من خلال تقنياتها وامكانياتها المتطورة ودعمها لاستمرار الزيارة من دون إدخال اي تعديل عليها أو الغائها.
وهو ما يعني بالتعكير السياسي، تأييد واشنطن خصوصاً للقاء الذي سيجمع قداسة البابا مع السيد السيستاني.
وفي هذا الاطار كان يجري التداول بفكرة تقضي بانضمام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى وفد البابا في العراق، إلا انه تم تجاوزها لاحقاً لعدة اسباب، علماً أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكية والذي كان قَبِل دعوة رأس الكنيسة المارونية الى زيارة لبنان، لم يحدد موعداً لهذه الزيارة وهو إذ يقوم بزيارة العراق رغم كل الظروف، فهو بعدم تحديده موعداً لزيارة لبنان في هذه المرحلة، يوجّه رسالة اعتراض للسلطة السياسية في لبنان، وبطبيعة الحال للجزء المسيحي منها، بعد رسالتين خطيتين جرى إذاعتهما وتضمّنتا انتقاداً لاذعاً بسبب أولوية المصالح الخاصة على المصلحة العامة، كما جاء في رسالة الميلاد ويوم لقائه بالسلك الديبلوماسي المعتمد في الفاتيكان.