ناصر قنديل
–خلال عقدين كان إطار أحداث المنطقة يتحرّك في ظل تزامن الهزيمة الإسرائيلية أمام المقاومة اللبنانية المدعومة من سورية وإيران، واضطرار قيادة كيان الاحتلال للانسحاب مهزومة من لبنان وتالياً مواجهة انتفاضة فلسطينية شاملة، وتالياً انتصارات محور المقاومة في حرب تموز 2006 وحروب غزة وصولاً للانتصار في سورية والعراق على الإرهاب، وبالتوازي وصول المحافظين الجدد الى البيت الأبيض في ظل قرار حرب على المنطقة تحاول تعويض نتائج الهزيمة الإسرائيلية وردّ الاعتبار لتوازنات تجعل قوى المقاومة في وضع الدفاع وتستردّ المبادرة لمشروع الهيمنة، وما فعلته الإدارات الأميركيّة المتعاقبة خلال العقدين من حروب مباشرة وبالوكالة صولاً للعقوبات، لتأكيد الإصرار على تعديل التوازن، لصالح الهيمنة الأميركيّة وفي ظلالها مكانة متقدّمة للحليفين الإسرائيلي السعودي.
–الفشل الأميركي بعد عقدين مليئين بالمواجهات، جاءت إدارة الرئيس جو بايدن، لتجد أمامها ضرورة رسم سياسات تخفّف أعباء المواجهات الميؤوس من تحقيق انتصار فيها، سواء عبر العودة للاتفاق النووي مع إيران، أو عبر إعادة الاعتبار للموقع القياديّ الأميركيّ للحلفاء في رسم السياسات بعدما بدت واشنطن في عهد دونالد ترامب ملحقة بالسياسات المتهوّرة للسعوديّة وكيان الاحتلال، وتدفيع واشنطن أثمانها، وصولاً لسعي واشنطن لاسترداد زمام المبادرة في السياسة الدولية تحت شعار دبلوماسيّة تحاصر الخصوم في روسيا والصين وإيران تحت عنوان حقوق الإنسان، ما يستدعي التضحية بالحلفاء الذين يمثلون عبئاً على هذه السياسة، كما فعلت إدارة باراك أوباما بالتضحية بحلفائها في مصر وتونس لتزخيم حملتها الهادفة لإسقاط سورية تحت شعار الربيع العربي، ليتبلور من كل ذلك مناخ تصادم مفتوح بين واشنطن وحاكم الرياض الفعلي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
–الجماعات والزعامات والجمعيّات العربية ومنها اللبنانيّة، التي ولدت أو تحرّكت أو نمت على خلفية العداء لمحور المقاومة، كانت تستند الى ثنائيّة سعودية أميركية، لم يعد ممكناً الحفاظ على توازنها، فواشنطن تعمل لبلورة حليف في المجتمع المدني العربي والمجتمع السياسي العربي يشكل إحدى ركائز سياساتها التي ستتخذ من حقوق الإنسان عنواناً لها، وتضع لهذه السياسة إطاراً يبدأ من مطالبة الراغبين بالحصول على دعم واشنطن، ويدينون محور المقاومة وقواه بعنوان حقوق الإنسان والديمقراطية، ويطلبون مساندة واشنطن بدعمهم وبتبنّي دعواتهم لملاحقة ومعاقبة قوى المقاومة بهذا النوع من التهم، كما حدث في لبنان فور الإعلان عن مقتل الناشط لقمان سليم، بأن ينضمّوا إلى حملتها بوجه ولي العهد السعودي.
–رغم حصول هذه الزعامات والشخصيات والجمعيات العربية ومنها اللبنانية على تمويل من واشنطن، إلا أن التمويل والدعم الأكبر كان يصلها من السعودية، وفجأة تجد نفسها مضطرة للاختيار بين واشنطن والرياض، ويبدو التعلثم واضحاً في عجز هؤلاء عن مساندة الموقف الأميركيّ من مقتل الصحافي جمال الخاشقجي، بل إن بعضهم سارع لانتقاد الموقف الأميركي، تحت شعار أولوية مختلفة عن الأولوية الأميركية، عنوانه مواجهة إيران ومحور المقاومة والتغاضي عن كل ما يعطل جمع أعداء محور المقاومة في واشنطن والرياض وتل أبيب، وفقاً لأولوية ترامب التي لا ترتضي إدارة بايدن مواصلة السير بها، ومشكلة هؤلاء أن اختيار واشنطن سيضعفهم مالياً وهم يحبون المال كثيراً، وأن اختيار الرياض سيضعفهم معنوياً ويفضحهم ويسقط مزاعمهم كداعمين للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الشعارات التي يرفعونها، وهم يقولون إن شهادات الانتماء إليها تصدر من واشنطن حصراً.
–التحرك الذي شهده لبنان تحت عنوان الدعوة للتدويل والحياد، والذي شهد إحدى حلقاته العلنية في بكركي، واجه بكل مكوّناته من بكركي نفسها الى الأحزاب والزعامات والجمعيات والشخصيات التي شاركت بالتحضير والتعبئة للحشد، هذا التعلثم، فطرح التدويل والحياد يستمد قيمته من قدرته على مخاطبة واشنطن ونيل مساندتها، وواشنطن تشترط لفتح النقاش سماع موقف واضح من قضية قتل جمال الخاشقجي باعتبارها مانيفستو جبهة حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي، وإذا كانت بكركي تجد مع بعض الزعامات والأحزاب عذراً لتفادي الحديث عن القضية بذريعة حاجة لبنان للدعم السعودي المالي، فواشنطن تجيب أنها تتفهم ذلك اذا كان التحرك من خلال حكومة لبنانية تطلب دعم خطة نهوض اقتصادية، اما من يريد دعم واشنطن الاستثنائي لدعوة التدويل والحياد تحت عنوان حقوق الإنسان والديمقراطية، فعليه أن يلبي دفتر شروط الانضمام الى جبهة تقودها واشنطن تحت هذا العنوان، وما ينطبق على بكركي والأحزاب والزعامات، فيتحوّل الى مضبطة اتهام بوجه الشخصيات والجمعيات التي تعمل تحت هذا العنوان وتطلب دعم واشنطن.