ابراهيم ريحان -أساس ميديا
لا وقت أمام لبنان. بهذه الكلمات يُمكِن اختصار الحالة التي وَصَل إليها لبنان في ترسيم حدوده البحريّة الجنوبيّة مع إسرائيل. ومع تجدّد الكلام عن إعادة التفاوض مع قبرص أو عدم التفاوض، بحجّة وقوع “أخطاء” أدّت إلى “خسارة” لبنان أكثر من 2600 كلم مربعًا لصالح جارته البحريّة، يسري كلامٌ في السّرّ عن جدوى التّعنّت اللبناني في الترسيم.
“مهمَا أطالوا في المُهمّة فالعودة حتميّة إلى الخط الذي رسمته”، هذا ما نقله لـ”أساس” أحد الذين سمعوا هذه العبارة من السّفير فريدريك هوف، الذي قاد جهود الوساطة بين لبنان وإسرائيل قبل أعوام.
فبحسب الخبراء، لن يكون باستطاعة لبنان استخراج الثروات النّفطية والغازيّة الكامنة في بحره، خصوصًا في البلوك 9 الذي يضمّ بحسب الدّراسات أكبر مخزون من الغاز الطبيعي… إلّا بعد 7 إلى 9 سنوات من تاريخ إنجاز ترسيم الحدود. بكلامٍ آخر لا يزال لبنان بعيدًا جدًّا عن أيّ أملٍ للاستفادة من مليارات الدّولارات الكامنة في مياهه.
هناك رأيٌ يعتقد أنّ لبنان أضاع خلال السّنوات الأخيرة العديد من الفُرص التي تُمكّنه من دخول نادي الدّول النفطيّة، لينتشل نفسه من أزمته الماليّة والاقتصاديّة ويستقطب الاستثمارات. لكن على المقلب الآخر، هناك رأي يقول إنّ تمسّك لبنان بالمطالبة بمنطقة الـ2200 كلم جنوبًا وإعادة التفاوض مع قبرص، قد يعود بالنّفع الكبير على لبنان باستعادة 2600 كلم مربّع من قبرص.
لا جدوى من إعادة التفاوض مع قبرص
الخبراء في التفاوض مع “القبارصة” يُحذّرون من الإقدام على خطوة كهذه، بناءً على ملاحظات تقنيّة وسياسيّة قد لا تصب في مصلحة لبنان في حال قرر السّير بهذا الاتجاه:
أوّلًا: يعتبر المُعارضون أنّ تمسّك لبنان في مفاوضته مع إسرائيل على اعتبار صخرة “تخليت” لا تأثير لها في الترسيم كونها ليست بجزيرة، قد يفتح الباب أمام القبارصة وحتّى سوريا في مرحلة لاحقة، للقول بأنّ جزيرة النّخيل قبالة سواحل طرابلس هي صخرة ناتئة في المياه، وبالتّالي لا تأثير لها في الترسيم بحسب معاهدة قانون البحار. وفي هذه الحالة يقول المعارضون إنّ لبنان سيخسر الكثير من مساحة مياهه الإقليميّة. خصوصًا إذا أراد الجانب اللبناني الاعتماد على الحُكم الصّادر في قضيّة أوكرانيا ورومانيا عام 2009 بعد احتساب أيّ تأثير لجزيرة الثعابين التّابعة لأوكرانيا التي يسكنها 100 شخصٍ وتبلغ مساحتها حوالي 0.17 كم مربّعًا.
ثانيًا: إعادة التفاوض أو التحكيم قد تمتدّ لسنوات طويلة، كما هو الحال بين الكثير من البلدان المُتجاورة والتي صدر الحُكم النهائي في ترسيم الحدود المُتنازع عليها بعد 20 أو 30 سنة.
ثالثًا: عدم منطقيّة الاستدلال بقضيّة ليبيا – مالطا في حزيران 1985، وذلك بسبب انتفاء ملامح الشبَه بين لبنان وقبرص. فذلك النّزاع كان على مساحة خارج المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل من ليبيا ومالطا (أكثر من 200 ميل بحري). في حين أنّ النّزاع المُحتمل بين لبنان وقبرص هو متداخل في تحديد المنطقة الاقتصاديّة لكلٍّ منهما (150 ميل بحري تقريبًا).
رابعًا: تفتقر إلى الدّقة حجّة أنّ محاضر اتفاقيّة 2007 تفيد بأنّ النقطتين 1 و6 غير نهائيّتين، ولا صحّة للادّعاء بأنّ هذا يسمح للبنان بطلب إعادة التفاوض مع نيقوسيا. إذ أشار مصدر مُطّلع لـ”أساس” أنّ محضرًا واحدًا فقط ذُكِر فيه ذلك الأمر، وكان في بداية المُفاوضات قبل أن يُوقِّع الوفد اللبناني الذي كان يضمّ ضُبّاطًا من الجيش على خريطةٍ لترسيم الحدود بين لبنان وقبرص.
العقدة السّوريّة
الحلم اللبناني باستخراج الغاز الكامن في المُتوسّط بات في مهبّ الرّيح. وهذا ما يؤكّده الواقع بحذافيره. من المعلوم والمُسلّم به عالميًّا أنّ شركات استخراج النّفط والغاز لا تُزاول عملها أبدًا في أيّ نقطةٍ قد تُعدّ موضعَ نزاعٍ بين بلدين، فكيف لو كانت “البلوكات اللبنانيّة” موضع نزاعٍ مع 3 دول؟
ففي الشّمال يقع “البلوكان” 1و2. ولبنان لم يقم بترسيم حدوده البحريّة مع سوريا، وبالتّالي فإنّ أيّ شركةٍ لن تقبل بالتنقيب فيهما. وهذا ما يُفسّر بدء لبنان عمليّات التنقيب في “البلوك” رقم 4 قبالة المنطقة الممتدة من البترون إلى جونيه تقريبًا.
ما يثير القلق والريبة مما يخبّئه النّظام السّوري للبنان مُستقبلًا، هو عمليّات توقيف بعض الصيادين في المياه الإقليمية اللبنانيّة من قِبَل البحريّة السّوريّة، بحجّة أنّ الصّيادين اخترقوا المياه الإقليميّة السّوريّة. هذه التوقيفات قد تشير مُستقبلًا إلى أنّ عمليّة ترسيم الحدود البحريّة في أيّ وقت بين لبنان وسوريا لن تقلّ صعوبةً عمّا يواجهه لبنان في المفاوضات مع الإسرائيليين.
وتشير المعلومات التي حصل عليها “أساس” إلى أنّ الجانب السّوري يُطالب لبنان بالتفاوض معه بشكلٍ مباشر، ومن “دولة لدولة” وبوساطة روسيّة لترسيم الحدود، ولن يقبل بأيّ طريقة أخرى. وفي الوقت عينه يصعب الحصول على “تنازلات” من الجانب السّوري، الذي لم يُعجبه تفاوض لبنان مع قبرص من جانب واحد، من دون أن يكون إلى جانب دمشق التي يبدو أنّها لم تتقبّل بعد فكرة استقلال الكيان اللبناني وسيادته. وعلى المقلب نفسه، لن يكون الجانب الرّوسي حياديًّا، بل سيلعب دور الوسيط المنحاز تمامًا كما هو حال الولايات المُتحدة مع إسرائيل في المفاوضات البحريّة.
الانحياز الرّوسي إلى النّظام السّوري سيكون أمرًا واقعًا خلال أيّ مُفاوضات مُحتملة. إذ إنّ أيّ تلزيم للتنقيب عن النّفط والغاز في البلوكات السّوريّة وخصوصًا البلوك 3 المحاذي للبلوكين 1 و2 اللبنانيين، سيكون من نصيب شركات روسيّة في الدّرجة الأولى.
أمّا المنطقة التي قد تكون موضع تنازع مع قبرص في حال قرّر لبنان إعادة التفاوض أو اللجوء إلى التحكيم، فستضم “البلوكات” 1 و3 و5 المحاذيّة للبلوكين 3 و13 القبرصيين. وفي هذه الحالة لن يكون باستطاعة لبنان تلزيم شركات للتنقيب في البلوكات الواقعة داخل منطقة النّزاع.
أمّا مصير التنقيب في البلوكات 8 و9 و10 الجنوبيّة والتي يدخل أقسامٌ منها بنِسبٍ متفاوتة في المنطقة المُتنازع عليها مع إسرائيل، فهو محسومٍ: عدم السّماح على الإطلاق باستخراج ولو سنتيمترٍ مكعب من الغاز، بقرار أميركي، قبل إنجاز الترسيم الذي يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.
وفي هذا الإطار، علم “أساس” من مصدرٍ أميركي كان شغل منصبًا رفيعًا في إدارة الرئيس الأسبق دونالد ترامب، أنّ العقدة الأساسيّة في ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل هي انتظار ما سينتج عن التفاوض بين إدارة جو بايدن وبين إيران في الملف النووي، وكذلك ما يتعلّق بمسألة الصواريخ الدقيقة لحزب الله والتي تعتبرها واشنطن مصدر تحقيقٍ جِدّيّ لمنصات الغاز الإسرائيليّة لا ينبغي السّكوت عنه.
ولم ينفِ المصدر احتمال أن يُقدِم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على البدء بعمليات التنقيب في المنطقة المُتنازع عليها من دون أيّ اعتبار للجانب اللبناني. وبالتّالي يكون لبنان قد أصبح أمام أمرٍ واقعٍ بغطاء من الولايات المُتحدّة التي لن تبقى مكتوفة الأيدي في حال تعرّض المصالح النّفطيّة والغازيّة الإسرائيليّة للتهديد، بحسب كلام المصدر.
وبهذه الحِصَارات النّفطيّة غير المُعلنة وسوء إدارة الأزمة يصير لبنان أبعد ما يكون عن تحقيق حُلم استخراج النّفط والغاز، ولو عُلّقت اللافتات هنا وهناك مُبشّرة بدخوله “نادي الدّول النّفطيّة”. فالواقع يقول إنّ لبنان لن ينال “كوب” نفط قبل 25 أو 30 عامًا إذا لم يُحسن إدارة أزمته وأخذ العِبَر من دول المنطقة التي سارعت لإنجاز ما ينبغي لحجز مكانها في حوض المتوسّط، وفي مُقدّمتها مصر، التي عرفت تمامًا كيف تُثبت وجودها وسيادتها في المياه.
ومن المُستغربِ أيضًا طيلة السّنوات الماضية عدم دراسة جدوى إنشاء خطّ أنابيب للغاز يمتد من لبنان إلى قبرص ومنها إلى مصر التي تتربّع على عرش الدّول المُسيّلة للغاز الطبيعي، ما كان سيتيح للبنان أن يقتنص فرصةً لمُقايضة الخطّ باستجرار ما يلزمه لتوليد الطّاقة بدلًا من البحث عن إبرة “فيول” في كومة “قشّ الإفلاس”.