لم يكن مشروع البطريركية المارونية منذ نشأتها، مشروعاً للموارنة وحدهم، بل من الأساس كانت تعمل للحفاظ على لبنان الحرّ المستقل، يحمي كل لاجئ ومضطهد وطالب للحرية إلى أي دين انتمى. في تاريخها القديم والحديث، قادت المواجهات في المحن. وعند كل خطر، تنبري، لتصحح المسار، وفق ما سلكه البطاركة الأوائل، فتكون متراساً للدفاع عن الأرض والكيان في وجه الاحتلالات.
لم يصل البطريرك الماروني إلى طرح عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان إلا بعدما أقفلت بوجهه كل السبل، وحصد الخيبات من القيّمين اليوم على مقدرات الوطن. وجد أنّ إمكانية إخراج لبنان من أزمته غير متوافرة، خصوصاً أنّ مشكلاته ليست محصورة بأزمة معيشية واقتصادية فقط، بل في رهان البعض مجدداً على التبدلات السياسية في لبنان والمنطقة لتغيير هوية لبنان وضرب كيانه ونظامه، الامر الذي لطالما حذّر منها البطريرك في عظاته.
وقد حاول الراعي في الأشهر الأخيرة الدخول على خط التوتر السياسي، فعمل على طرح مبادرات تبدأ بحل الملف الحكومي، كبداية طريق لإنقاذ الوضع اللبناني برمّته، اقتصادياً ومالياً، وسياسياً، إنطلاقاً من شعور الكنيسة بهموم الناس ومواكبتها للظروف المعيشية للبنانيين، ومن خشيتها ان يؤدي الواقع الاجتماعي والاقتصادي المرير إلى انفجار اجتماعي.
خابت محاولات البطريرك، أقفل السياسيون باب الحل في وجهه. سقطت كل الوساطات، وباتت الحلول محكومة بأجندة خارجية تتخطى المشروع اللبناني في قدسيته ورسالته، وعمقه الايماني، وأجندة داخلية تتمحور حول مصالح شخصية وفئوية، كما يقول مصدر معارض لـ»الجمهورية».
وبعد ان وصلت الأمور الى حائط مسدود دعا الراعي الى مؤتمر دولي بإشراف الأمم المتحدة لأنه وجد عملياً أنّ المسؤولين اللبنانيين إمّا لا يريدون وإمّا عاجزون عن إخراج لبنان من أزمته، وهو يعتبر أنّ هذا الواقع اذا استمر سيؤدي إلى انتقال لبنان من الانهيار الى الانفجار. وتلافياً لهذا الانفجار، ناشد المرجعية الدولية في محاولة لوضع حدّ للانزلاق الوطني الحاصل.
هذه الدعوة أثارت ردود فعل لدى «حزب الله» لأنه يخشى من التدويل، يقول المصدر المعارض. والحزب يتجنّب هذه الخطوة، لا بل يرفضها انطلاقاً ممّا يمكن أن يؤثر سلباً على مشروعه في لبنان والمنطقة أيضاً، خصوصاً انّ الداعي الى هذا المؤتمر الدولي هي بكركي وليس أي طرف سياسي أو حتى الدولة، الخاضعة لوصايته. فالتجربة التي عاشها وعايَشها «حزب الله» مع البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير بين الـ2000 والـ2005، تجعله يتوجّس من بكركي لما لها من مكانة واحترام وقيادة وتأثير في الداخل والخارج، من ان تعيد إنتاج التراكمات ذاتها التي عمل عليها صفير بعد إطلاقه نداء أيلول الشهير والذي دعا فيه إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، وكانت مساهمة كبيرة لبكركي بإخراج السوريين، فيؤدي المؤتمر الدولي الذي ينادي به الراعي النتيجة نفسها على الحزب، بطرح سلاحه ودوره على طاولة البحث.
ومن ناحية أخرى، يدرك «حزب الله» انّ المنطقة مقبلة على مفاوضات مع ايران قد لا تكون بعيدة، سيتم فيها البحث في دورها على مستوى المنطقة، وسلاحها الباليستي والنووي. وبالتالي، يتخوّف الحزب من تزامن المؤتمر الدولي من اجل لبنان مع هذه المفاوضات، فيحاول إفشاله، تجنّباً لأي تقاطع دولي وداخلي يفرض تسويات على ايران تضرّ بمشروعه في لبنان، ويكون ثمنها رأس «حزب الله»، كأن يُطلب من ايران الكَف عن استخدام لبنان ساحة بواسطة الحزب وأن تباشر بإسقاط كل المحرمات، ومنها إجراء تعديلات على دوره في لبنان والمنطقة وتسليم سلاحه.
ويؤكد المصدر المعارض أنه «مع الطرح البطريركي الجديد، دخل لبنان مرحلة جديدة. وبالنسبة الى البطريرك لا يمكن للأمور ان تستقيم إلّا بمؤتمر دولي، وهو ذكر أكثر من مرة انّ «اتفاق الطائف» نجح في إنهاء الحرب، لكنه لم ينجح في بناء الدولة. لذا، يجب ان يكون هناك مؤتمر للبنانيين يساهم في بناء دولة لبنانية، لم يتمكن اتفاق الطائف من بنائها، إن نتيجة الاحتلال السوري أو نتيجة سطوة السلاح غير الشرعي». ويضيف: «إنطلق الراعي في مشواره لإنقاذ لبنان ولن يتراجع، بدأه بطرح موضوع الحياد واستكمله مع دعوته الى مؤتمر دولي. هذا التطور يأتي من جهة على وَقع مواقف سياسية كبيرة وعابرة للطوائف تؤيّد طرح بكركي، بالتزامن مع واقع اجتماعي معيشي صعب يخيف اللبنانيين، ما يدفعهم الى أن يكونوا الحاضنة لمشروع البطريرك. فيحظى من جهة بحاضنة سياسية واسعة عبّرت بأكثر من موقف وزيارة عن تأييدها طرحه، وأيضاً بحاضنة شعبية، تقابلها حاضنة خارجية وتحديداً فاتيكانية، وهو ما يخشى منه الحزب، لِما للبطريركية من صلات وثيقة وعمق كبير مع الفاتيكان الذي يمكن ان يؤدي دوراً كبيراً وفعّالاً في الضغط لإنجاح دعوة الراعي وعقد مؤتمر دولي للبنان. وربما، تجعل هذه المعطيات «حزب الله» في موقع المترقّب لِما سيقوله البطريرك الراعي اليوم أمام الحشود الشعبية ليبني على الشيء مقتضاه، كما ذكرت مصادره لـ»الجمهورية».
والراعي في خطوته، كما تعتبر الشخصية المعارِضة، أجرى ربط نزاع مع المجتمع الدولي، لسببين: الأول، من اجل ألّا تكون هناك أي مقايضة حول لبنان وألّا يُصار إلى تسليمه لوصاية دولة اخرى نتيجة اي تسوية كما حصل عام 1990 عندما فُوّض الى سوريا إدارة الملف اللبناني. وثانياً، لأنّ الأمور وصلت إلى مكان لم يعد في الامكان أن تستمر، ما يتطلّب تسوية جديدة ترتكز على «اتفاق الطائف» والدستور والقرارات الدولية. من هنا، يمكن البطريركية أن تستفيد من التحركات الشعبية من جهة، والسياسية من جهة أخرى حتى يكون لصوتها صدى في الصروح الدولية.
فبكركي، تضيف الشخصية المعارضة، أطلقت دينامية، ولو انها لن تتحقق سريعاً، لكن ستكون ككرة الثلج، على غرار الدينامية التي أطلقها البطريرك صفير، التي استلزمت 5 سنوات لتصل إلى نهايتها الايجابية بخروج السوريين من لبنان. لذلك، فإنّ خشية الحزب أن تشكّل الدينامية الجديدة التي أطلقها الراعي في ظل الوضع المأزوم لبنانياً، الى طرح مسألة سلاحه ودوره في أي مؤتمر دولي، خصوصاً انّ هذا السلاح هو الذي يشكل الأزمة الحقيقية لمنع قيام دولة في لبنان ويحول دون تطبيق الدستور والقوانين وأدى إلى نشوء طبقة سياسية فاسدة، تغطي سلاح الحزب ودوره مقابل أن يغطّي فسادها، وهو ما أوصل لبنان إلى مصاف الدولة الفاشلة».