أيّاً كانت الصورة التي سيتخذها التجمع الشعبي في بكركي بعد ظهر اليوم فقد أدى غرضه قبل ان ينعقد. بهذه العبارة لخّص مراقبون ما قصد اليه اللقاء ليس دعماً لدعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى مؤتمر ترعاه الامم المتحدة لخلاص لبنان فحسب، بل لأنه سيكون رسالة مدوية رفضاً للتمادي في بعض الجرائم التي ترتكب في حق لبنان وعودة سريعة عن بعض التوجهات الخطيرة. وعليه، كيف يمكن تبرير ذلك؟
في انتظار من سيتعاطى مع «سبت بكركي» المقرر تنظيمه الثالثة بعد ظهر اليوم، على طريقة «زوم إن» او «زوم آوت»، فإنّ الدعوة التي التقت عليها معظم الأحزاب اللبنانية مسيحية وغير امسيحية ومعها المجتمع المدني والروابط وجمعيات مختلفة المشارب والأهواء تحت عنوان «بكركي بتجمع» شكّلت تحدياً كبيراً لدواعي التباعد الإجتماعي التي فرضتها جائحة «كورونا»، والتي قد تشكل عائقاً امام حصول مد بشري غير مسبوق.
وفي ضوء هذه المعطيات، تعزز الإقتناع بأنّ «سبت بكركي» سيشكل محطة مؤثرة في التطورات المقبلة على الساحة اللبنانية. فما شهده الصرح البطريركي من حَج سياسي وحزبي خلال الأسبوعين الماضيين يعبّر عن حدة الاحتقان الذي تخطى الساحة المسيحية الى الوطنية منها، وقد بلغ مرتبة قريبة من الذروة نتيجة الاخطاء التي ارتكبت في اكثر من موقع ومحطة. وكنتيجة حتمية لفشل اهل الحكم في إدارة الأزمات المتشابكة على المستوى الحكومي والسياسي كما الاقتصادي والنقدي ومواجهة نتائج انفجار بيروت والنكبة التي حلت بها. فتلاقت الإرادات الرافضة سلوك اهل السلطة على دعم مبادرة «سيد بكركي» رغم الاقتناع غير المكتمل بإمكان الوصول الى ما يرضيها، وتحقيق ما تصبو اليه في مرحلة اختصرها البطريرك بنفسه عندما قال أمس الاول امام وفود زارته انه اضطر الى الدعوة الى هذا المؤتمر بعدما «تعطلت لغة الحوار بين اللبنانيين واقتيد البلد للخروج عن حياده الذي كان يعيشه وعرف خلاله ما عرفه من ازدهار».
وان توسّع المراقبون في قراءة ما يدل اليه التجمع اليوم في بكركي، فإنهم لا يمكنهم إحصاء جميع الأخطاء التي حضّت عليه، وجعلت عدداً كبيراً من المترددين للانضمام اليه والمشاركة فيه. فمسلسل الاخطاء التي ارتكبها البعض بحق لبنان «كوطن لجميع اللبنانيين» وليس مقراً او ممراً او مستقراً للبرامج الاقليمية والدولية التي وضعته على «طريق الفيلة» بدل ان يكون متفرّجاً على رصيف المواجهة الدولية المتناحرة والمتموضعة بين محورين كبيرين يستخدمان ما لديهما من قدرات اقتصادية وعسكرية وديبلوماسية ومالية هائلة تتجاوز تردداتها قدرة الوطن الصغير على التحمّل. وكل ذلك نعيش نماذج منه، وقد يطول الامر ان بقي الحكم مصطفّاً الى جانب أحدهما مدعياً «الإنتصارات الوهمية» في وقت بات فيه الوطن مهدداً بالفوضى العارمة التي لا يمكن لأحد لَجمها والحد من مخاطرها.
وزاد في الطين بلة، ما عبّرت عنه السلطة من انتقادات لتوجهات بكركي من دون ان تتحرك لتلبية ما أرادته لخير لبنان واللبنانيين. ففضّلوا معاندتها وصولاً الى اتهامها بالتقصير في حماية المسيحيين والتوسط لدى دول خليجية لنصرة فريق على آخر ينوي مصادرة حقوق المسيحيين في لبنان وتهديد مستقبلهم. ولم يتوقفوا عند هذه الحدود، فقد راسلوا الفاتيكان للتعبير عن شكوى من مواقف البطريرك على مصير طائفة بكاملها من اجل الاحتفاظ بالمكاسب الآنية المحققة بدلاً من إجراء «التكويعة» المطلوبة لمواجهة حجم الحصار المفروض على المسؤولين في الدولة وإجراء مقايضات لم يكشف في العلن سوى عن السياسي والإداري والمالي والتشريعي منها وإخفاء بعضٍ آخر منها يطرح في الكواليس السياسية والديبلوماسية ولا يتصل بما تحتاجه المرحلة من «وصفات» عاجلة للخروج من المأزق.
على هذه القواعد يتطلّع المراقبون الى تحرك اليوم على انه رد على مختلف الطروحات السياسية والحكومية، وفيه دعوة عاجلة الى وعي مخاطر المرحلة قبل فوات الأوان وخوفاً من بلوغ مرحلة لا يعود ينفع فيها الندم على مجد ضاع وحياة كريمة باتت مهددة بكل مقوماتها. فكل ما هو مطلوب اليوم مراعاة المرحلة قبل فرض مزيد من العقوبات، والتي زادت الدفعة الأولى منها من تهشيم صورتهم التي اهتزّت بمقدار كبير بعد انتفاضة 17 تشرين وصولاً الى الادعاء بانتصارات اقليمية للمحور الذي ينتمون اليه سعياً الى استغلال ما هو مؤقت في ما هو دائم وطويل الأمد على الساحة اللبنانية.
وعليه، فإنه لا يمكن لأهل السلطة الاستمرار في انكار ما حصل الى اليوم في مثل الظروف التي اسقطت لبنان الى اسفل لوائح التصنيف الدولي الذي يبحث عن قروض ومساعدات من البنك الدولي لمواجهة حالات الفقر في البلاد ودعم الأسَر الجائعة، كما لإعادة اعمار ما تهدم ومواجهة الفضائح التي نضح بها الخروج عن برتوكولات برامج اللقاحات في مواجهة «كورونا» بعدما قالت الإحصائيات الاولية وتقرير التفتيش المركزي ما لم يقله أحد بعد من المراجع الدولية التي تلاحق مصير المساعدات المالية التي حصل عليها لبنان لقاء هذه البرامج. فما سجّل من خروج على ما قالت به المنصة الخاصة باللقاح وقواعد التعاطي مع تحصين المجتمع وفق القواعد المعتمدة يهدد ما تبقى من محطات والبلد ما زال في البداية، هذا عدا عن السيناريوهات التي بدأت تتحدث عن «تفقيس» شركات لاستيراد اللقاحات تحاكي الطريقة التي أديرت فيها برامج الدعم للمواد الغذائية والمحروقات والخبز والأدوية والتي تجاوزت المخالفات فيها ما يمكن ان يتوقعه إنسان.
وهنا على الجميع ان يدرك مبكراً انّ أي محاولة لتعميم الفساد في هذا القطاع ستعطي رسالة سلبية خطيرة الى المجتمع الدولي الذي لم ينظر الى لبنان منذ فترة طويلة إلّا من النوافذ الانسانية والطبية والإجتماعية، فيما هو يحتاج الى دعم اقتصادي ونقدي لا يمكن الوصول اليه قبل تشكيل حكومة قادرة على مخاطبة المجتمع الدولي والاطلاع بمسؤولية تنفيذ الاصلاحات التي تنهي ادواراً لقيادات وأحزاب نَمت على مبدأ السطو على المال العام واستخدام السلطة في تعزيز المواقع وتكبير الاحجام بما لا يتناسب وما بلغته البلاد من انهيارات واسعة لا يمكن تداركها بغير المعونة الدولية المشروطة بالتغيير الكبير.
وختاماً، فإنّ في كل ما سبق، ما يشجّع على ان يكون تجمع بكركي اليوم رسالة مدوية الى كل من لا يشاطر اهدافه وعناوينه، وهو امر لا يُستعاض عنه ولا يمكن مواجهته إلا بإحياء المساعي لتشكيل «حكومة مهمة» بالمواصفات غير المطروحة لدى اركان السلطة، والتنازل الى الحدود القصوى عن أنانيات وبرامج وهمية، ووقف استخدام المنطق الديماغوجي المعتمد، والذي فعل فعله في إعطاء «سبت بكركي» أهميته قبل ان نشهد على شكله ومضمونه ورسائله.