عبد الرحيم التوراني
ماذا لو عاد الشهداء؟ من انصهرت دماؤهم وهم يجاهدون ضد الاحتلال والاستعمار، فوقفوا على ما يجري اليوم من معارك بين الأحفاد في سباق محموم لحفر خنادق التفرقة ولصناعة الضغائن والأحقاد.
حتما سينكر الشهداء العائدون ما سيرونه، سيتبرأون من عقوق وشرور الأحفاد غير البررة. بل سيسرعون بالعودة إلى أحضان العالم الآخر، إلى سلامهم الأبدي.
دعونا نفترض مع الطّاهر وطّار، أن شهداء الجزائر والمغرب عادوا فعلا (!)، كما كتب الأديب الجزائِريّ الراحل في نص قصصي اختار له عنوان: “الشّهداء يعودون هذا الأسبوع”.
هذه ليست الجزائر ولا المغرب
بعد استقبال موكب شهداء الاستقلال بما يليق من الاحتفاء والتبجيل والتكريم، ستمنح لهم هواتف ذكية وحواسيب، وتفتح أمامهم شاشات الشبكة العنكبوتية. كم ستكون صدمتهم كبيرة لما سيحاصرون على حين غرة بأخبار الأزمات وتطور النزاعات بين البلدين، وبسيل من الكتابات والتعليقات والصور والفيديوهات الغريبة، فيستعصى عليهم فهم لغتها وتمييز غايتها وحدة نبرتها التي تمتح من قواميس الضغينة والإسادة والشتيمة والسباب، منمقة بتعابير السخرية الممجوجة والرخيصة. سيتبادل الشهداء باستغراب واستنكار نظرات الغضب والحزن فيما بينهم، ويتساءل كل منهم أين راحت وشائج اللغة والأرض والتاريخ والدين والمصير؟ أين صارت أواصر النسب والعصب والدم؟ ألم نكن عائلة موحدة الأصول طيبة الأعراق وسليلة المجد والحضارات؟ (آلاف العائلات الجزائرية – مغربية اقترنت بالزواج والمصاهرة، كما توزعت إقامتها بين البلدين، مغاربة بالجزائر، ومثلهم من الجزائريين بالمغرب، خصوصا من أبناء المناطق الممتدة على الحدود).
سيصدم الشهداء، وربما رددوا:
– لا، هذه ليست الجزائر، ولا المغرب! وهؤلاء البشر ليسوا من صلبنا أو هم لا يمتّون إلينا بصلة!
ثم ستتناهى إلى أسماعهم أصداء الأخبار السيئة والصراعات المجنونة، من آخرها، زعم كل واحد من الجانبين أنه هو صاحب أكلة “الكسكس” ومن اخترع حساء “الحريرة” المشهور؟!. وسيرون فيديوهات لفلاحين جزائريين يحتجون على تدفق سد تسربت مياهه إلى أراضي الجوار في المغرب، فلاحون يحتجون على استفادة جيرانهم في الشطر الآخر من هذا التسرب الطبيعي، إذ أن مياه السد وهي تعبر الأرض لا تعترف بسياسة “الحدود”. لكن نشطاء الفيس بوك في البلدين اشتبكوا وأشعلوها نارا غاضبة، وتبادلوا الاتهامات، ما كان سيؤدي إلى أزمة دبلوماسية تزيد من توتر العلاقات المغربية – الجزائرية المتوترة أصلا. وكانت “ضحكاً كالبُكَا” مشاهدة لقطة غاضب يصرخ: “احنا بنينا السد وهم يستغلوه”(!).
سيفاجئون بمن كتبوا أن المياه الآتية من وجدة في المغرب هي مياه ملوثة تصيب مستهلكها بداء السرطان، وبأن ما يقارب خمسة آلاف جزائري من ساكنة مدينة تلمسان أصيبوا فعلا بالسرطان، والسبب راجع إلى النفايات المغربية (!). وأنها جريمة مترصدة.
تقارير مبللة بماء مسروق وآخر ملوث، تتحول إلى وابل أحقاد تغرق مواقع التواصل الاجتماعي الجزائرية – المغربية. يا له من عداء متمكن بأصحابه، ويا لها من أوهام مبتكرة وجنون قاتل!
ستنقل إليهم أخبار التوتر في الصحراء الغربية وما تخللها عبر الأعوام من حروب و”نيران شقيقة”، إلى واقعة إغلاق وفتح معبر “الكركرات”، ويُخبرون باعتراف الأمريكيين بمغربية الصحراء، وكيف جذب الصراع بين الجارين إسرائيل إلى المنطقة. وكيف تخلت القيادة الجزائرية عن موقفها بأنها ليست طرفا في النزاع الصحراوي، وبأنها كما عرفها العالم منذ عقود، تدعم قضايا الشعوب وتقرير المصير. لتصرح أن الجزائر طرف معني، وأن القضية تهم العمق الأمني الاستراتيجي للجزائر. و بأن “الجزائر مهددة بوصول الكيان الصهيوني إلى حدودها”.
ثم انطلقت جولة أخرى من التراشق المتبادل بالاتهامات والاستفزاز وردود الفعل المثيرة، في “حرب سيبرانية” حامية الوطيس.
في “خبر عاجل” على الإنترنت، سينسب إلى القنصل العام المغربي في وهران أنه وصف الجزائر ب”البلد العدو”. انتشر فيديو ظهر فيه شخص قيل إنه قنصل المغرب بمدينة وهران، كان يحاول تهدئة مغاربة يحتجون أمام القنصلية، بعدما علِقوا في الجزائر بسب جائحة كورونا (مارس 2020). وقيل إن الشخص خاطب المحتجين: “أنتم تعرفون نحن في بلد عدو”. (إحالة إلى نزاع حول الصحراء الغربية طالت سنواته منذ عام 1975، وإغلاق مستمر للحدود منذ 1994). ورغم أن الدبلوماسي المغربي نفى صحة ما نسب إليه، وأكد أن وقائع الفيديو صحيحة، إلا أن الصوت تمت فبركته. فإن مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت، وزاد من تأجيجها انخراط الخارجية الجزائرية باستدعائها للسفير المغربي للاحتجاج.
قراصنة الأمل
هنا حاول الشهداء الانصراف من دون استئذان. لكنه تم استبقاؤهم لمشاهدة برنامج ساخر على قناة “الشروق” الجزائرية يحاول محاكاة برنامج أخبار الدمى (لي غِينْيولْ) الذي أنجزته القناة الفرنسية “كنال بلوس” على امتداد ثلاثة عقود ونيف. كانت النتيجة هي استياء عارم للشهداء من فقرات البرنامج، الذي قيل لهم إنه سيرفه عنهم ويخفف بعض ما أثقل خاطرهم. فإذا به يثير غضبهم. فقد جيء بدمية قيل إنها تمثل العاهل المغربي، وذكروا على لسانه ما وصف ب”التطاول والإساءة، ونعت بالبؤس الإعلامي والافتقاد إلى الصواب وإلى الحد الأدنى من المروءة”…
كان سؤال أكثر المشاهدين من الجانبين عن مفهوم السخرية ومعنى الترفيه فيما عرض عليهم؟
واستنكر المجتمع المدني في المغرب ما اعتبر “محاولة الإساءة للمغرب وثوابته ورموزه”.
لكن الضجة زادت قوتها، وانضمت إليها شخصيات من مستويات مختلفة، من رئاسة الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني في المغرب، إلى الذباب الإلكتروني المنبعث من الضفتين. استفسر الشهداء فقيل له إنها حشرات من طينة ذباب نادر، تشترك مع الذباب في التغذي على امتصاص الدم وتشفيط ولعق الأوساخ، وفي الطنين المزعج والتحليق بأجنحة الخداع والتضليل.
ورأى الشهداء جماعة بأردية سوداء ووجوه مخفية تتسلل بمحاذاة الجدران، فأُخْبروا بأنهم من جماعات “الهاكرز”، فعادوا للسؤال عن أصل وغاية هؤلاء القوم، فقيل إنهم ينتسبون إلى البلدين، وبأن من ترصد خطواتهم أكد إنهم كانوا ذاهبين للتعبير عن غضبهم من برنامج قناة “الشروق” بأسلوبهم “القتالي” الخاص. ولم يتأخر وصول خبر قيام “هاكرز” مغاربة باختراق وقرصنة حوالي 300 موقع جزائري، منها مواقع رسمية. ما جعل الحكومة الجزائرية تتهم مباشرة الإسرائيليين الذين باتوا على حدودها الغربية، والقول بأن الاختراق المشار إليه هو ناتج عن تعاون إسرائلي – مغربي. حسب ما أدلى به وزير الاتصال الجزائري، الذي تكلم عن “تهديد لسيادة الدولة الجزائرية الرقمية”. واتهم جزائريون النظام الملكي بالرجعية والاستبداد، وباتوا لا يسمونه إلا بدولة “المخزن”، وهو اصطلاح تاريخي قديم لنظام الحكم في المغرب. فرد عليهم مغاربة بأن قيادة الجزائر تحاول تصريف مشاكلها الداخلية بالبحث عن مشجب تعلق عليه فشلها الداخلي وسياستها الإقليمية، من أجل تحويل وجهة الحراك الشعبي المندلع منذ عامين والمطالب بتأسيس حكم مدني بديلا عن “نظام الجنرالات” الذين يسيطرون على الجزائر منذ الاستقلال بقبضة حديدية. ثم تجرأ بعض الحمقى من المتسلطين على فن السخرية والفكاهة، بالمس بتاريخ الجزائر ورئاستها، بل وصل الأمر إلى التهويل بأخطار خيالية وبالعبث بالعلم الوطني.
وضع الشهداء أياديهم على صدورهم، وأدركوا أنهم أمام كارثة عظمى يتولاها جهلة مارقون من قراصنة آمال الشعوب. كارثة تكرس واقع الهزيمة والتضعضع والقصور وتثبيط الهمم والعزائم.
الدم لن يصير ماء
تعب صبر الشهداء والتفتوا فيما بينهم، وأعلنوا إدانة كل ما شاهدوه من منزلقات خطيرة صادرة من الجانبين، هي حتما ليست في صالح المنطقة. وشجبوا بشدة تنمية الكراهية والتشهير اليومي، ورعاية الأحقاد والعداء بين الشعبين، ونشر التضليل واليأس عن عمد وسبق إصرار من لدن جهات تستفيد من التفرقة ومن واقع البغض والشقاق غير المقبول بالمطلق، لأن نتيجته هي ضياع منتظر وأمر محسوم.
عند هذا الحد، تجمع الشهداء واتجهوا يجرجرون حزنهم الكبير إلى مدافنهم الآمنة، كان من بينهم جزائريون يسكنون بمقابر الدار البيضاء ووجدة والرباط والقنيطرة وطنجة، وغيرها من مدن المغرب، ومغاربة بمقابر الجزائر ووهران وعنابة وقسنطينة وسطيف، وغيرها من ولايات الجزائر.
لكنهم، وهم في طريقهم ارتد إليهم الأمل التفاؤل، لما أدركوا أن كل الوقائع المأساوية وركام الجراح التي لمسوها ووقفوا عليها سببها التهور السياسي، وأنها أزمة عابرة في زمن عابر، ليس باستطاعتها هز الكيان المشترك الوطيد بين البلدين والشعبين الشقيقين الجارين الأبديين. وأن ما تمثله روابط الدم والعرق والدين واللغة والتاريخ والكفاح، لن تتلاشى وتضمحل، فالمستقبل والمصير واحد.
استعادت ذاكرة الشهداء صور وصيحات الجماهير الرياضية الجزائرية – المغربية في المحطات والميادين الرياضية. آخرها في كأس العالم 2018 بروسيا وكأس افريقيا 2019 بمصر، كانوا جمهورا موحدا يصدح بشعار واحد وبألوان واحدة وبلغة واحدة. ما يفهم منه أن التحلي بالروح الرياضية ضروري لتجازو الخلافات، وأن الرقي بالشعبين بعيدا عن الصراعات والحسابات السياسية الصغيرة آتِ لا محالة. وتمنوا دنو يوم يخوض فيه الجزائريون والمغاربة معركة المستقبل والوجود بمنتخب حضاري واحد لهزم الخصم والعدو الحقيقي. ثم تعالت من الأرجاء أهازيج من “زمن التحرير والنضال”، قابلتها زغاريد وهتافات من زمن الحرية والكرامة والديمقراطية.
صاح الشهداء صيحتهم المدوية: “طاب الموت يا شهداء”. من أجل الحرية استشهادنا. لنكون شعبا واحدا. فنحن دعاة سلام، محبون للسلام، نسعى بالسلم للسلام. نعم نستطيع، نعم بإمكاننا تغيير أوضاعنا وأحوالنا بأنفسنا، وتغيير وجه المنطقة والعالم، بامتدادنا الجغرافي (60 في المائة من خريطة المغرب العربي، 80 بالمائة من مجموع الساكنة، 75 بالمائة من الاقتصاد الإجمالي للمنطقة، والقواسم المشتركة على أكثر من مستوى إنساني – هوياتي، ثقافي وحضاري وتاريخي). فكيف تعوزنا الجهود والإرادة من أجل فتح صفحة جديدة في العلاقات بين بلدينا؟ بدل المضي في دروب التيه والتخدير بين اليقظة والسبات الأبدي.
متى ساعة الخلاص والتسامح والتعاون، واستنهاض قيم الخير والعزةّ والكرامة، وتحقيق المحبة والأخوة بوعي حتمية العيش المشترك والمصير الواحد.
خلد الشهداء إلى راحتهم الأبدية، وظلت أرواحهم الطاهرة تكلل السماء. ونشيد واحد على الألسنة والأفئدة يملأ العقول، رافضا اليأس والانهيار السحيق والفتن، رافعا رايات الأمل وزرع الوعي في النفوس بالتصدي لعوامل التفرقة والعدم.
“الشهداء يعودون…”!
يا لها من فكرة مستحيلة وغير قابلة للتصديق. لكن ما استشهدوا من أجله حيٌّ باقِ، وإرادة الشعوب حقيقة لا تفنى ولن تقهر.
“إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر”.
المصدر: الحرة