الأخبار- ملاك حمود
ليست العلاقات السعودية – الأميركية، ما بعد دونالد ترامب، في أحسن أحوالها؛ فاختطاط إدارة جو بايدن مساراً جديداً لها لليّ ذراع وليّ عهد المملكة، محمد بن سلمان، ستكون له تداعيات ظرفية مِن مِثل ابتزاز هذا الأخير لاستحصال واشنطن ما تطال يدها من تنازلات تُعزّر التوجّهات الجديدة للبيت الأبيض في المنطقة، وأخرى يُحتمل أن تؤسِّس لمشهدٍ إقليمي (ربّما) لا يكون الأمير الشاب جزءاً منه حالَ قرار الولايات المتحدة رفع الغطاء عنه والتخلُّص من «عبء» يثقل كاهلها. لم تكن قضيّة اغتيال جمال خاشقجي لتنتهي بهذه البساطة، من دون أن تبادر الإدارة الوليدة إلى نبش ماضٍ قريب لم تتمكّن الرياض بعد من تجاوز تداعياته التي فاقمها نُطق القضاء السعودي، قبل أشهر قليلة، بأحكام ضدّ مجهولين، ارتأوا مناسباً ارتكابَ جريمةٍ مروّعة في ممثليّة دبلوماسية، فقتلوا مَن سمّوه «خروف العيد» وجزّأوا جثّته بدمٍ بارد قبل إذابتها بالأسيد، هكذا مِن تلقاء أنفسهم.
تقاطعت كلّ الروايات التي ظلّت تتأتّى تباعاً، عبر الإعلامَين التركي والأميركي، عند نقطة التقاء واحدة تضع وليّ العهد السعودي في صلب «حادثة القنصليّة»، لكنّ الغطاء الذي ظلّلت به إدارة ترامب ابن سلمان، منذ اللحظة الأولى لوقوع الجريمة، دفَع تهمة الاغتيال عنه وأبقاه على مسافة أمان من عرّابه في البيت الأبيض. وعلى رغم اقتناع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، «سي آي إيه»، ابتداءً، بمسؤولية الأمير الشاب عن مقتل الصحافي السعودي في قنصلية بلاده في إسطنبول يوم الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، كانت كلّ المؤشرات تدلّ على اتجاه الإدارة الأميركية إلى «طبخ» رواية مع الرياض تضع ابن سلمان خارج دائرة الضوء، لاعتبارات عدّة، من بينها عدم الإضرار باستراتيجية البيت الأبيض إزاء إيران، وفق ما سُرِّب في حينه. ارتفاع الأصوات المطالِبة بتغيير الحكم في السعودية، وازدياد الضغوط على واشنطن في الأيام الأولى لـ»اختفاء» خاشقجي، أثارا مخاوف لدى البيت الأبيض من الالتهاء عن مسألة حزمة العقوبات الأولى ضدّ الجمهورية الإسلامية ما بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، ما جعل اهتمام واشنطن والرياض مصبوباً على إنهاء القضيّة/ الفضيحة إعلاميّاً، بهدف إعادة التركيز على الملفّ الإيراني. اقتناع الاستخبارات بمسؤولية ابن سلمان مردّه إلى سيطرة هذا الأخير الكاملة على أجهزة الأمن في بلاده، ما يجعل من المستبعد جدّاً تنفيذ عمليّة من هذا الوزن من دون علمه، فضلاً طبعاً عن وجود أعضاء تابعين له في فرقة الاغتيال الأمنية المؤلّفة من 15 شخصاً بقيادة ماهر المطرب، والتي قال القضاء السعودي، في أحكامه الأوّلية، إنها اجتهدت وقرّرت قتل الصحافي بعدما رفض التفاوض، ما فتح الباب لاحقاً أمام تبرئة كبار المسؤولين، وعلى رأسهم نائب رئيس الاستخبارات السابق أحمد عسيري، والمستشار المُقال في الديوان الملكي سعود القحطاني، الذي ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، نقلاً عن تقييم «سي آي إيه»، أنه تلقّى قبل اغتيال خاشقجي وأثناءه وبعده 11 رسالة من ابن سلمان. في مطالعة الدفاع عن وليّ عهد المملكة، والتي تولّاها ترامب شخصياً، يُعدُّ التخلّي عن «بقرةٍ حلوب» ضرباً من الجنون. من هنا، جاء موقفه المساند للقيادة السعودية، لكونها «شريكاً راسخاً» للولايات المتحدة، «يدفع مبالغ طائلة» ثمن صفقات السلاح، فضلاً عن «دورها في خفض أسعار النفط العالمية». إعلان ترامب الذي قفز على محتوى تقرير وكالة الاستخبارات المركزية، كما كان متوقّعاً، لم يكن مستغرباً، لأن الأمر بالنسبة إليه «بمنتهى البساطة… أميركا أولاً… لن أدمّر اقتصاد العالم، ولن أدمّر اقتصاد بلادنا بالتصرّف بحماقة مع السعودية»، ودفعها إلى أحضان روسيا والصين.
ومع تبدُّل الرواية السعودية الرسمية حيال القضية مرّة تلو أخرى، ظلّت براءة ابن سلمان وكلّ مَن يدور في فلكه الثابت الوحيد فيها، فيما بقيت خلاصة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي ربطت في استنتاجاتها وليّ العهد بالجريمة (وهي الخلاصات نفسها التي توصّلت إليها المقرّرة الأممية، أنييس كالامار، في تقريرها الصادر منتصف عام 2019)، في خانة السرّية، لحماية تحالف عائلة ترامب – ابن سلمان، والذي كاد ينجح في تخطّي حالة السخط الدولي، لو حالف الرئيسَ السابق الحظُّ في ولايةٍ ثانية. إزاء ما تقدَّم، قرّرت الإدارة الجديدة تنفيذ وعدها برفع السرّية عن التقرير الذي كان يُفترض إماطة اللثام عنه يوم أمس، قبل أن تُقدِم وزارة الخارجية الأميركية على إرجاء نشره، وتالياً إرجاء المكالمة المنتظرة بين بايدن والملك سلمان. والأمران باتا مترابطين بحكم الأمر الواقع، إذ لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن الهدف الحقيقي من اتصال الرئيس الأميركي، هو إبلاغ الملك السعودي بقرار رفع السرّية عن تقييم «سي آي إيه». وفي حين لم تتّضح مسألة التأجيل حتى الآن، فإن نشر المحتوى غير السرّي، في هذا التوقيت، يحتمل هو الآخر سيناريو من اثنين: فإمّا التخلُّص من ابن سلمان، أو ابتزازه لتحصيل تنازلات في غير ملفّ، واليمن وإيران ليسا إلّا على رأس قائمة الاهتمامات المستجدّة للإدارة الأميركية. واستعيض عن الاتصال المؤجّل، بآخر جمع وزيرَي خارجية البلدَين أنتوني بلينكن وفيصل بن فرحان، إذ حضّ الأوّل الثاني على ضرورة تَقدُّم الرياض في «مجال حقوق الإنسان»، مؤكداً التزامه بالتعاون مع المملكة لإنهاء الحرب في اليمن. لكنّ الوزارة استبقت الاتصال ببيان أكّدت فيه أنه سيتمّ نشر التقييم في وقتٍ قريب، مذكّرة بأن بلينكن «يثق بالاستخبارات»، فيما سينكبّ الرئيس الأميركي على «مراجعة العلاقات بأكملها مع السعودية، بما يحقّق مصالح الشعب الأميركي»، أيّاً كان ما يعنيه ذلك.