لم يكن مفاجئاً للبنانيين، ولا مُخالفاً لتوقعاتهم المُسبقة، كل المحاولات البائسة لشق صفوف أهالي شهداء مرفأ بيروت وتسييس قضيتهم الوطنية، بالتزامن مع قرار محكمة التمييز الجزائية بتنحية المحقق العدلي القاضي فادي صوّان عن ملف الانفجار، وفقدان سيد بكركي الأمل بأي رغبة داخلية بإنقاذ لبنان من الانهيار، في مصادفات متتالية تثير شُبهة مفادها أن هناك من يودّ التأثير على مجرى التحقيق القضائي وعلى موضوع الإستعانة بالتحقيق الدولي، ضمن بروباغندا تحاول ذر الرماد في العيون على طريقة “فرّق تسد” المعهودة. لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه مؤخراً في مقدّمة الأسئلة الدائرة في فلك “قضية مرفأ بيروت” في مواجهة التحالف الحاكم هو “لماذا كل هذه الإستماتة في البحث عمّا يفرّق بين عوائل الشهداء والجرحى، ومحاولة تأطيرهم في “كادر” طائفي أو سياسي، وضرب الثقة بمطالبهم المحقّة، واستدراجهم إلى الشقاق في شخصنة قضيتهم على خلفية تصريح ادلى به الناطق الرسمي ابراهيم حطيط بأنه “رافض لأيّ تدخلات سياسية ممّن سمّاهم مجرمي الحرب الأهلية”؟ وهل سيتأثر التحقيق ومجرياته بهذه الحملات الممنهجة لضرب الثقة بالضحية بدل ايجاد القاتل؟
فريق واحد!
ليس لذوي شهداء انفجار مرفأ بيروت باع في تسييس جراحهم، هذا ما أكده معظم أهالي الشهداء لـ”نداء الوطن” مصرّين على أنّهم فريق واحد، ليسوا ضدّ خيار التدويل، إذ أنّ منهم من يرى مسلك التحقيق الدولي سيأتي له بحقّه، ولكن أيضاً هناك منهم من لم يفقد الأمل بالقضاء اللبناني بعد. أما أسلوب التشويش على أصحاب “الدم” واختلاق “سوسة” لنخر أي مبادرة ايجابية تندرج لمصلحتهم ما هو إلا أسلوب شبّ الشعب اللبناني وشاب عليه، أسلوب التفريق بين أصحاب القضايا لتثبيت دعائم حُكم “الرؤوس الكبيرة” التي لم يطلها حساب ولا استجواب حتى الساعة ليس فقط لجهة “تابو” المس بالحصانات ولا لجهة احتلال المسعى الشعبي الجامع إلى محاسبة الجناة وكف يد الساسة عن القضاء فحسب، وإنما كذلك لجهة تبديد مصالح أي جهة مستفيدة بشكل مباشر من معمعة حقوق الناس.
أما الناطق الرسمي باسم أهالي شهداء مرفأ بيروت ابراهيم حطيط فبرر موقفه لـ”نداء الوطن” على أنه “تمت إساءة فهمه” قائلاً: “لا أنا ولا أحد منّا ضدّ خيار أي عائلة في المطالبة بتحقيق دولي، لا بل إن توزيع “البيض في عدّة سلات” لا يضرّ. فليقاتل منّا من يريد، للتوجّه نحو خيار المحكمة الدولية أو حتى المطالبة بلجنة تقصّي حقائق تجمع المعلومات وتضعها في عهدة القضاء اللبناني، بل أتفهّمهم وأتفّهم يأسهم، فألمنا واحد ونحن عائلة… ولربما ستساهم هذه الخطوة في الوصول إلى المسؤولين الحقيقيين عن الانفجار. وليُقاتل كل منّا من يريد على جبهة الضغط على القضاء اللبناني الذي آمل بكل جوارحي في أن يُنصفنا ويُنصف قضيتنا، لأنّها قضية وطنية جامعة وانسانية “حرام يسيسوها” ويحاولوا تفريقنا والاجتزاء من أقوالنا والبحث بين كلماتنا على “خرم” للدخول منه واللعب على الكلام”. مؤكداً أنه “لا انقسام بين أهالي الضحايا. ما نرفضه واضح، نحن ضدّ أن يتبنّى أي فريق سياسي قضيتنا، وضدّ تدخل الأحزاب السياسية، إذ أن جميعهم في موقع مسؤولية ومُساءلة، والجميع بنظرنا مُدان إلى أن تتمّ تبرئته”.
ضحكوا علينا!
“تصبحون على اقتصاص”، على هذه الجملة تنام أكثر من 90 أسرة لبنانية خسرت فلذات أكبادها. اقتصاص طال انتظاره، كما يقول عنه محيي الدين اللاذقاني الذي توفى والده في أمان منزله في المدوّر ويتابع: “لسنا ضدّ التدويل ولا ضدّ القضاء اللبناني، ولا أحد يقف ضدّ أي محاولة لضمان الوصول إلى نتائج فعلية للتحقيقات في انفجار المرفأ. من قتل أبي وجيسيكا وثروت وكريستينا وكلوديا وحسن وجورج وعصام وابراهيم وجو وأي شهيد وشهيدة، كمن تسلّل إلى يومياتنا، وسرق عمودنا الفقري. لا انتماء إلا لدماء أطفالنا، لا انتماء إلا لحقوقهم، لا انتماء إلا لقضيتهم، لا انتماء إلا لآلامهم، لا انتماء يعلو على وجعهم وأجسادهم التي فتّتها الفساد. وهنا أحاول أن أشرح، أنّ ما يجمع بيننا كأهالٍ من ألم أكبر من أي سياسة ومِحور وزواريب ضيقة.
من جهته، يقول جورج بازيجيان، والد الشهيدة جيسيكا أنّ الأسبوع الماضي كان أسبوعاً كارثياً مليئاً بتراشق الإتهامات المشيطنة والطائفية ومحاولات تقسيمنا بالتزامن مع إخراج القاضي صوان من الملف بعد إصراره على تخطّي الحصانات. ذلك لأن قضيتنا ناصعة البياض لا شيء مشيناً فيها كي يضربونا به وتحركاتنا جد سلمية. وعليه، هناك محاولات حثيثة لإلهاء الناس عبر بثّ السموم بيننا. كما أريد الإشارة إلى أنه وإن كان أي أحد منا تابعاً لجهة سياسية معينة قبل 4 آب، فدماء ذوينا أهمّ وأرقى وأعلى عندنا من أي تبعية، وننسى الدنيا بما فيها من أجلهم. قتلونا أكثر من مرّة، قتلوني عندما قُتلت ابنتي، قتلوني عندما ضربونا في إحدى التظاهرات، قتلونا في تنحية القاضي ومعمعة الاستجوابات، قتلونا في محاسبة الصغار دون الكبار، ويحاولون قتلنا اليوم في تفريقنا”. أما المؤسف أنهم وعدونا بتوقيع مرسوم مساواة شهدائنا وجرحانا بشهداء الجيش، وإذ تفاجأنا أنهم “ضحكوا علينا”، فلم يشملوا المعوّقين ولا الجرحى بالمرسوم، مع أنّ منهم من اصيب بعطب مدى الحياة. كما أنه وبعد ستة أشهر على توقيع هذا المرسوم، لم يحصل أي أحد منا لا على راتب ولا تعويض ولا من يحزنون، ككلّ المراسيم حبر على ورق.