رجالٌ مُلتحون ونساء منقّبات وكراهيّة تاريخيّة لـ«إسرائيل».. من هم «الحريديم»؟
جميلة قلاوون -اللواء
“تفاصيل غريبة وصادمة” تلاحقك عند قراءتك عن “الحريديم”، إلى الحدّ الذي يجعلك تبحث، بل وتغوص في خفايا حياتهم المغلقة على العالم الخارجيّ، حيث لا هاتف، لا حاسوب، ولا حتّى تلفزيون. أمّا الخفايا الأكثر تعقيدًا، فلا بدّ أنّها تلك العلاقة المترنّحة بين “الحريديّين” و”الصهيونيّة” منذ نشأتها، إلى أن جاء “كورونا” وفضح ما هو أعظم، عن انقسامات بالجملة تضرب مجتمع الكيان الإسرائيليّ المتخبّط ما بين التطرّف والعلمانيّة. فمن هم إذًا اليهود “الحريديم”؟ كيف تطوّرت علاقة الطائفة بـ “الصهيونيّة”؟ ولماذا تعيش نساؤهم حياة خفيّة داخل “البرقع”؟
يشكّل “الحريديم” طائفة يهوديّة متطرّفة، تتمسّك بأصولها وتطبّق طقوسها الدقيقة بتفاصيلها وحرفيّتها. فكلمة “حريديم” هي جمع لـ “حريدي”، وهي مشتقّة من الفعل “حرد” الموجود في اللغة العربيّة بمعنى اعتزل أو اعتكف.
يتمسّك “الحريديم” بشكل تام باليهوديّة “الهالاخاه” الأرثوذكسيّة، ويرفضون إعادة النظر في الشرائع والتقاليد اليهوديّة، لا يأتمرون إلا لزعيمهم الدينيّ، ولا يرضخون للسلطة ولا يُعيروها أدنى اهتمام.
وفقًا لبيانات دائرة الإحصاء المركزيّة لعام 2018_2019، بلغ عدد اليهود “الحريديّين” في فلسطين المحتلّة مليونًا و250 ألفًا، وتبلغ نسبتهم 13.6% من السكان، ويتضاعف عددهم كلّ عشرة أعوام، حيث من المتوقع أن تكون نسبتهم عام 2028 أكثر من الخمس، على أن تتخطى عام 2059، 34.6% من إجمالي السكان. إذ يبلغ متوسط عدد المواليد في الأسرة الحريديّة 10 أطفال فما فوق. مع الإشارة إلى أنّهم يعيشون في مناطق مخصّصة لهم، وشبه معزولة.
رجال بـ “لحى”.. ونساء بـ “البرقع”
يرتدي “الحريديم” عادة أزياء يهود شرق أوروبا، وهي عبارة عن معطف أسود طويل وقبعة سوداء، بالإضافة إلى “الطاليت”، وهو شال غالبًا ما يكون أبيض اللون في زواياه الأربع “التزيتزيت”، وهي مجموعة خيوط طويلة من الصوف مجدولة ومعقودة بطريقة خاصة.
يترك رجال “الحريديم” ذقونهم حتى تصل إلى صدورهم، من دون تهذيبها، وكذلك يرسلون شعورهم وتتدلّى من خلف آذانهم خصلات شعر مجدولة.
أمّا لباس نساء الحريديم فيتشابه إلى حدّ كبير مع النساء المسلمات الملتزمات،إذ ترتدي الكثير منهنّ لباسًا يكاد يطابق “البرقع”، إلّا أنّه يُعرف لديهم بـ “الفرومكا”، ويطلق عليه البعض اسم “برقع طائفة الحريديم”.
تعليقًا على الموضوع، قال الحاخام بنيزري لموقع your jewish news أنّ الطائفة اعتمدت هذا اللباس “بسبب مخاوف بشأن حالة تدهور الحياء في المجتمع اليهوديّ المتشدّد”.
“الحريديّات”.. حياة خفيّة منغلقة
يبدو لافتًا في هذا السياق، الحياة المخفية والممنوعة على العالم الخارجي، التي تعيشها النساء “الحريديات” اللاتي يتوجّب عليهنّ الزواج في سنّ ما بين 17.5 و18 عامًا، برجل لا تلتقيه أكثر من ثلاث مرات، وغالبًا ما يتم اللقاء أثناء فترة الخطوبة. تنحصر مكانتهنّ كـ ربّات بيوت، يربين ما بين 7 و10 أبناء، ولا يسمع لهنّ صوت تقريبًا.
كما أنّه لعلّ من أكثر الطقوس استهجانًا، حلق المرأة لشعر رأسها بمجرد الزواج، وتحريم إطالته مرة أخرى، وترتدي المرأة بدلًا منه الباروكة أو غطاء الرأس.
تنصّ تعاليم حياة “الحريديم” على الفصل التام بين الرجال والنساء، وعلى أنّ مكان المرأة ليس بين الجمهور، وتكون معزولة عن الحياة العامة،
هذا وتعيش “الحريديّات” حياة منغلقة جدًا واحتشامًا مبالغًا فيه بالإضافة إلى العنف الشديد الممارس ضدهنّ، وإلزامهنّ بالصمت، حيث يعتبرون صوت المرأة عورة، فيُحرّمون عليها الحديث في الهاتف المحمول في الشوارع أو محطات الأتوبيس والأماكن العامة.
وفيما تسعى نساء الطائفة للتحرّر من الأعباء التي يفرضها عالم “الحريديم” المتطرّف عليهنّ، حيث خرج بعضهنّ للعمل في أماكن قريبة من سكنهنّ، تعلو أصوات حاخامات معارضين في المقابل، لتعتبر أنّ الأمر يعدّ “لعنة كبيرة”، عبر “الانفتاح والانجرار خلف العالم العصريّ الضالّ”.
كما تقف ضدّ رغبات النساء “الحريديات” في التحرّر مجموعة متزمتة أخرى تسمى بـ “نساء الطالبان”، وهي مجموعة من النساء اللواتي يتميزن بوضع “الشال”.
لغة “الحريديم”
يتحاشى اليهود الحيرديم قدر الإمكان التحدّث بالعبريّة، إذ يعتبرونها “لغة مقدسة” يُفضّل تجنّب استخدامها، ويتكلّمون بدلًا منها بلغة أخرى تسمّى “اليديشية”، وهي بحسب موسوعة ويكيبيديا، لغة يهود أوروبا، نمت خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين من لغات عدة، منها الآرامية والألمانية والإيطالية والفرنسية والعبرية.
بالنسبة إلى المدارس، فهم يفضّلون نوعًا خاصًا من المدارس الدينيّة اليهوديّة يدعى “اليشيفات” يتمّ فيها تعليم الدين التقليديّ والتلمود. أمّا العلوم الدنيوية فيتعلّمها أبناء هذه الطائفة عند الحاجة فقط، من أجل إنقاذ الحياة (مثل الطب) أو من أجل كسب الرزق. بينما دراسة الأدب والفلسفة وغيرها، فمرفوضة عند “الحريديين” إذ يعتبرونها علوم شيطانيّة.
مع الإشارة أيضًا إلى أنّ هذه الطائفة تعتبر كلّ أشكال الحضارة والتكنولوجيا مثل التلفزيون، الحاسوب، الهاتف النقال، بدعة، ويتحفّظون على استخدامها، وهم يُحرمون الفن والموسيقى.
“الحريديم” والصهيونيّة
لم تكن هناك علاقة بين “اليهود الحريديم” والحركة “الصهيونيّة” عند تأسيسها، بل عارضها الكثير منهم بشدّة في مراحلها الأولى، إذ اعتبروها حركة علمانيّة تهدّد الحياة اليهوديّة التقليديّة، حتّى أنّ بعضهم يقول إنّ “الدولة” لم تتأسّس في الوقت الصحيح، وكان على السياسيّين انتظار مجيء المسيح لإقامة الدولة وبناء الهيكل الثالث، وفق تعبيرهم، لذا فإنّ الدولة الحالية بمنظورهم “حرام وغير شرعيّة”. كما يعتقد هؤلاء أنّه لولا صلاتهم ودعواتهم وحبّهم للتوراة ما كانت “دولة إسرائيل” قائمة حتى الآن، على حدّ قولهم.
أما اليوم، وعلى الرغم من تعاون معظم “الحريديم” مع “إسرائيل”، باستثناء مجتمعات معيّنة مثل حركة “ناطوري كارتا”، إلّا أنّ معظم الشبان “الحريديّين” لا يزالون يفرّون من الخدمة العسكريّة الإجبارية عبر اللجوء إلى المعاهد الدينيّة، حيث يحصل كلّ شاب يلتحق بتلك المعاهد على راتب شهريّ يبلغ 4000 شيكل (1140 دولارًا) طيلة مدة دراسته، التي قد تصل إلى ثلاثة أعوام، وبعدها تسقط عنه الخدمة الإجباريّة.
وهذه إحدى النقاط التي عزّزت الكراهية بينهم وبين العلمانيّين الذين يعتبرون أنّ “الحريديم” عالة على الدولة، لحصولهم على ميزانيات ضخمة، وفي المقابل لا يعملون ولا يخدمون في الجيش.
هذا الانقسام بين الشرائح اليهوديّة المختلفة، عزّزه، بل وأظهره جليًا، فيروس “كورونا”، حيث رفض “الحريديم” الامتثال إلى أوامر الإغلاق الحكوميّ، وانتشروا في الشوارع والأماكن العامة ولم يكفّوا عن تنظيم التجمّعات في مناسباتهم الخاصّة، قائلين إنّ “الله والمسيح المنتظر سينجيانهم من الفيروس، وليس دولة الكفر العلمانيّ“.
هذه التصرّفات التي ضربت بعرض الحائط الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة الإسرائيليّة، دفعت بالشرطة إلى فرض حالة إغلاق على أحيائهم، ووضع سياج بين مدينة “رامات غان” العلمانيّة ومدينة “بني براك” المتطرّفة، الأمر الذي كشف عمق الانقسامات الجذريّة، بل والكراهيّة، التي تسود بين الشرائح المختلفة المكوّنة لمجتمع الكيان الإسرائيليّ.
لا تقف ظواهر هذا الخطر عند هذا الحدّ، بل تتعدّاه إلى التحذير من “زوال إسرائيل لأسباب ومؤثرات داخليّة”، عبّر عنه الرئيس السابق “الشاباك” يوفال ديسكين، حيث قال إنّ “إسرائيل لن تبقى للجيل المقبل”، معتبرًا أنّ “اليهود الحريديم باتوا عبئًا، وأنّ منهم من باتوا منتشرين في الاتجاهات المعادية للصهيونيّة، وبالنسبة لهم فإنّ إسرائيل في طريقها للخسارة“.
من طريقة العيش إلى الدين والفكر والسياسة، يعيش “الحريديم” إذًا باختلافاتهم الجذريّة وتطرّفهم الأعمى، في مجتمع تسوده في الأساس العنصريّة القاتلة حتّى داخل المكوّن الواحد، فهل يكون “الحريديّون” هم الخطر الداهم الذي يهدّد “إسرائيل” بالفناء من داخلها؟