كم هو ممجوج ذاك الخطاب الطائفي والمذهبي الذي يخفي خلفه عقداً نفسيّة وسياسيّة وأحقاداً متأصلة ومتجذرة في السلوك والنهج والأداء. وكم هي خارج الزمن تلك المواقف التي تستجدي إفتعال إشكالات ظاهرها سياسي ودستوري وباطنها طائفي ومذهبي الهدف الوحيد منه إستقطاب التأييد الشعبي الذي تعرّض لاهتزازات كبرى من قبل العهد وتياره.
ما الهدف الحقيقي خلف إفتعال إشكاليّات دستوريّة حول الصلاحيات الرئاسيّة؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وهل فعلاً أن الخوض في هذا النقاش سوف يوقف الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي الذي يطال كل الاتجاهات من دون إستثناء؟ هل فعلاً سيلجم التضخم الجنوني في أسعار السلع والبضائع؟ هل سيؤدي لاستعادة العملة الوطنيّة لقيمتها التي فقدتها بنسب هائلة وغير مسبوقة؟ هل سيعيد توفير آلاف فرص العمل التي فقدت أم يعيد فتح المؤسسات والشركات التي أقفلت؟
أي سجال هذا وبأي توقيت؟ لماذا لم يطالب الغيارى بالثلث المعطل لرئيس الجمهورية في عهد الرئيس ميشال سليمان مثلاً؟ أليست تلك القوى هي ذاتها التي كانت تقول أنه لا يحق لرئيس الجمهوريّة أن يكون له حصة وزاريّة كونه لا يتمتّع بحيثيّة تمثيليّة أو له كتلته النيابيّة؟ أليس التيار ذاته هو الذي يطالب بوحدة المعايير والمقاييس؟ أين وحدة المعايير في ذلك؟
لماذا هذا الحقد التاريخي لإتفاق الطائف؟ وهل الإثارة اليوميّة لقضيّة الصلاحيّات الرئاسيّة تستهدف الانقضاض على ما تبقى من “الطائف”؟ ألا تدرك تلك القوى التي تطرح هذا الأمر بصورة دوريّة أنها تغامر بالمكتسبات الباقية التي كرّسها هذا الاتفاق؟ ألا تقرأ موازين القوى الاقليميّة التي قد تعكس نفسها في أي معادلة محليّة جديدة لن تكون بالضرورة متناغمة مع تلك “المكتسبات”؟ هل هي فعلاً تظن أنها قادرة على العودة إلى ما قبل “الطائف” في مسألة الصلاحيات؟
ثمة إشكاليّة أخرى تتصل بهذا النقاش الفارغ الذي يمتطيه “التيار الوطني الحر” لتحوير الحقائق وتزييفها، وإيهام الرأي العام (المسيحي، إذا صح التعبير) أنه يملك الحق في ما يطرح وأنه يدافع عن حقوق الطائفة المهدورة. هل الرئيس هو رئيس كل اللبنانيين أم رئيس المسيحيين فقط؟ وهل هو رئيس المسيحيين جميعاً أم رئيس “التيار الوطني الحر”؟
لقد توفرت الفرصة السياسيّة والشعبيّة للرئيس ميشال عون أن يغادر المساحة الضيّقة التي يتحرّك فيها تياره بفعل ضيق الأفق والعيش في الماضي، وإستنفار العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة عند كل منعطف وفي كل محطة. كما توفرت له الفرصة بالانتقال بالبلاد من واقع إلى آخر، أقله تطبيقاً للحد الأدنى من الشعارات التي رفعها طوال سنوات وتمحورت حول الاصلاح والتغيير، وهي لم تكن سوى عناوين شعبويّة فارغة للمزايدة والاستهلاك الاعلامي لا أكثر ولا أقل.
كان بإمكان الرئيس عون أن يكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين، وعلى مسافة واحدة من كل الأطراف السياسيّة لأن ذلك كان الطريق الوحيد الذي يمكنه سلوكه من اجل إحداث تغيير جدي في البلاد. ولكنه سار في الاتجاه المعاكس تماماً. حافظ على الالتصاق بتياره متبنياً في الرئاسة النهج ذاته الذي كان أرساه في الرابية، فخسر بذلك قوته التي يمتلكها فقط من خلال ترفعه وعدم طلب شيء لنفسه أو لتياره.
كان بإمكانه أن يترجم أقواله المتكررة عن إستقلال القضاء بألا يعطل التشكيلات القضائيّة كسباً لموقع قضائي هنا أو هناك. كم كان موقفه كبيراً لو أنه قال للبنانيين أن لا أحد فوق القانون وأنه هو أول من يخضع للقانون، وأنه يحترم إستقلاليّة السلطة القضائيّة متبنّياً التشكيلات كما رفعها له مجلس القضاء الأعلى من دون زيادة أو نقصان!