العميد الركن نزار عبد القادر -اللواء
لم يأت تصنيف لبنان بين الدول الفاشلة بصورة مفاجئة أو اعتباطية، بل جرى وضعه على اللائحة التي نشرتها مؤسسة «راند» في عام 2007، وذلك استناداً لمعايير ومؤشرات وضعتها مجموعة من المؤسسات الدولية المتخصصة، بما فيها صندوق النقد الدولي أو المنظمة الاقتصادية للتعاون والإنماء. وجاء هذا التصنيف بعد سنوات عديدة من مطالب الدول والمؤسسات المانحة التي اجتمعت في مؤتمر «باريس -2» بضرورة قيام السلطات اللبنانية بمجموعة من الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية والمالية، والتي عادت وتجددت في مؤتمرات لاحقة، وكان آخرها مؤتمر «سيدر».
لم يحدث التدهور الحاصل في الحالة الاقتصادية والمالية وتهديد الأمن والاستقرار السياسي، وسوء أداء جميع المؤسسات الدستورية والإدارية نتيجة أزمات أو حروب دولية أو إقليمية، بل جاء كنتيجة مباشرة للصراعات الداخلية بين مختلف القوى السياسية، وغرقها في بحر من الفساد، وسياسة الانكار والالغاء، والارتهان والعمالة لقوى خارجية.
كان من الطبيعي ان تؤدي كل هذه الأمراض والعيوب التي ابتلي بها النظام السياسي اللبناني، وبمساعدة «المافيات» المختلفة التي نمت كالفطريات، في ظلمة غياب روح المسؤولية والمساءلة، وتدهور القيم الوطنية والاخلاقية عند هذه الطبقة الحاكمة، والتي تسلقت إلى مواقع السلطة منذ ثلاثة عقود بدعم وتشجيع سلطات الوصاية السورية أولاً، ومن ثم نتيجة تعطيل جميع آليات السلطة بفعل هيمنة السلاح المتفلت، ونشوء دويلة حزب الله على حساب الدولة.
تنبهت البطريركية المارونية في زمن البطريرك نصر الله صفير انطلاقاً من شعورها بمسؤوليتها التاريخية عن إعلان لبنان الكبير، وقيام الكيان اللبناني، وتحوّله إلى رسالة إنسانية تُكرّس العيش المشترك والتفاعل الخـيّر بين الأديان والطوائف إلى مخاطر استمرار هيمنة الميليشيات المتحاربة على أرض لبنان، فبادرت إلى تسهيل انعقاد مؤتمر الطائف، وحمت معنوياً جميع القيادات المسيحية التي شاركت فيه، كما حمت مضمون الاتفاق وما نتج عنه من تعديلات للنظام، بالإضافة إلى رعايتها لعملية استعادة دور وتأهيل جميع مؤسسات الدولة الرئيسية، وادركت بكركي أهمية استعادة لبنان لسيادته، فأصدرت إعلانها الشهير عام 2000، والذي اعتبر بمثابة إعلان الاستقلال الثاني، والذي اثمر في عام 2005 بخروج القوات السورية من لبنان، بعد الصدمة الكبرى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري.
صحيح ان الجيش السوري قد خرج من لبنان عام 2005، ولكن حلت مكانة حالة من النفوذ السوري – الإيراني، مع مسمى جديد هو محور المقاومة والممانعة الذي يقوده حزب الله، والذي سرعان ما تحوّل إلى دويلة داخل الدولة، تملك قرار الحرب والسلم، وهذا ما اظهرته من خلال مجريات الحرب مع إسرائيل عام 2006، وما تلاها من ممارسات سياسية وعسكرية وأمنية استمرت، وما زالت تتنامى على حساب المصلحة الوطنية ولصالح كل من ايران وسوريا.
وفي ظل حالة الفلتان والفساد المستمرة منذ عقود، وفي ظل ضعف وتآكل دور السلطة الرشيدة، كان من الطبيعي ان يقفز لبنان إلى رأس لائحة الدول الفاشلة، وذلك انطلاقاً من غياب السيادة وفقدان السلطة والمسؤولية الأمنية، ومروراً بتفكك المؤسسات الحكومية والدستورية، ووصولاً إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، والتي تشكّل مجتمعة حالة الدولة الفاشلة، وفق كل التوصيفات والمعايير المعتمدة عالمياً.
في خضم الأزمة المستفحلة التي يواجهها لبنان، والتي باتت تُهدّد بسقوط لبنان وتفككه امنياً وسياسياً واقتصادياً، كان لا بدّ من ان تبادر بكركي لممارسة دورها الانقاذي، انطلاقاً من مسؤوليتها التاريخية، وذلك عبر دعوة البطريرك بشارة الراعي لحياد لبنان أولاً. وذلك باسترجاع سيادته كخطوة على طريق تحرير الدولة من هيمنة الدويلة، وبالتالي فتح الباب امام جميع المؤسسات الدستورية والحكومية والأمنية لاستعادة سلطاتها وصلاحياتها، تمهيداً للقيام بحركة إصلاحية شاملة لكل المؤسسات العامة، واستعادة الدولة لسيادتها على كامل أراضيها. وبما يفتح الباب لتدفق المساعدات والاستثمارات العربية والدولية من أجل إعادة بناء الاقتصاد، وتصحيح الأوضاع المالية، ومعالجة أزمة المديونية العامة.
لكن سرعان ما ادرك البطريرك الراعي بعد فشل مبادرته السياسية لتسهيل تشكيل حكومة إصلاحية، وعلى أساس منطلقات المبادرة الفرنسية بأن مطلب الحياد والايجابي والعودة إلى إعلان بعبدا نصاً وروحاً، لم يعد كافياً لتفادي الانهيار الكامل للكيان. لقد قرّر البطريرك توسيع مبادرته الإنقاذية بالدعوة لعقد مؤتمر دولي برعاية منظمة الأمم المتحدة لتثبيت كيان لبنان وانقاذه من التفكك والزوال. كان من الطبيعي ان يثير مطلب البطريرك بعقد المؤتمر الدولي عدداً من المتضررين منه، ومن المعتدين على السيادة، والذين يسخرون حالة الدولة الفاشلة لصالح إيران وسوريا.
جاء الرد الغاضب والرافض لطلب المساعدة الدولية لإنقاذ لبنان من أمين حزب الله السيّد حسن نصر الله، والذي رأى فيه مشروع حرب داخلية جديدة، متمنياً على أصحابه سحبه من التداول، ومرفقاً بتهديدهم بالقول: لا تجربونا، وتلاه بعد أيام معدودة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في رفضه لمبادرة البطريرك، واضعاً ضمانة مستقبل المسيحيين في لبنان في عهدة نظام الرئيس بشار الأسد، كبديل للدور التاريخي لبكركي في تحقيق التوازن الوطني والسياسي حفاظاً على الكيان والاستقلال.
تناسى كل من السيّد نصر الله وجبران باسيل ان لبنان قد تحول وبكل المقاييس إلى دولة فاشلة، وبأنه في ظل أزماته المستعصية الراهنة، لم يعد بإمكانه النهوض بوسائله الخاصة، وهذا ما يؤشر إليه المأزق السياسي والمعيشي الراهن، كما تناسيا الأدوار التي لعبها المجتمع الدولي في وضع خطط وتنفيذها لمساعدة دول فاشلة عديدة من افريقيا والبلقان، وشرقي آسيا والشرق الأوسط، وأميركا الوسطى والجنوبية، ومن هنا يبدو جلياً بأن مطلب البطريركية بالتدويل ليس دعوة لاحتلال لبنان، بل هو دعوى للمساعدة والانقاذ.
في هذا السياق، لا بدّ من تذكير الرافضين لمبادرة البطريرك الراعي بأنه قد سبق للبنان ان احتاج في مرات عديدة لمساعدة المجتمعين العربي والدولي للخروج من الأزمات الخطيرة التي واجهها في السابق، وتحديد إبان أزمة 1958، حيث أدى التدخل الأميركي إلى استعادة الأمن والاستقرار وتأمين انتقال السلطة وإعادة بناء مؤسساتها وتحديثها، ونذكر أيضاً مبادرة الجامعة العربية، وايفادها «لقوات السلام العربية» للمساعدة في وقت الحرب الأهلية، ونشير أيضاً إلى تدخل القوة المتعددة الأطراف التي ساعدت لإخراج إسرائيل بعد اجتياح عام 1982، والتي ساعدت في إعادة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية.
وجاءت المساعدة العربية والدولية الكبرى من خلال عقد مؤتمر الطائف واعتماد الوثيقة الإصلاحية، التي شكلت المنطلق لتثبيت كيان لبنان وطنياً وعربياً، والتي ما زالت تصلح كأساس لبناء الدولة المدنية الحديثة، من خلال تطبيق ما تبقى من بنود هذا الاتفاق والذي لا يريده المعترضون على مبادرة تدويل الأزمة الراهنة.
في رأينا لم تعد كل القوى السياسية الراهنة صالحة أو قادرة على القيام بوضع رؤية إصلاحية شاملة وقادرة على منع سقوط هيكل الكيان اللبناني، هذا بالإضافة إلى عدم توافر الرسائل المحلية لتغييرها أو تعديل سلوكياتها على الأقل. فالثقة بين هذه الطبقة وبين اللبنانيين باتت مفقودة، ولا يمكن بالتالي استرجاعها أو إعادة بنائها. من هنا تبدو أهمية طلب مساعدة المجتمع الدولي لاستعادة سيادة لبنان وإعادة تشغيل مؤسساته الدستورية والخدماتية، وتفعيل القضاء ومؤسسات الرقابة، وتحقيق الحوكمة الرشيدة بتوسيع قاعدة المشاركة من خلال اشراك المجتمع المدني.
ويمكن ان تتماشى خطة إصلاح الدولة بالتوازي مع تدفق المساعدات والقروض لإعادة بناء الاقتصاد الوطني، والتأهيل المالي والمصرفي وبمشاركة واسعة من القطاع الخاص.
في النهاية، لا بدّ من دعوة كل الرافضين والمشككين بالمشاركة الدولية للانقاذ إلى الكف عن اتخاذ لبنان وشعبه كرهينة، من أجل خدمة مصالحهم الذاتية أو مصالح دول خارجية.