د. لينا بلاغي-العهد
على نقيض التحليلات حول علاقة تركيا مع الحكومة الأمريكية الجديدة، التي ألمحت الى مخاوف لدى البعض من تكرار تجربة الانقلاب على أردوغان إبان الإدارة الأمريكية “الديموقراطية” السابقة، ولا سيما بعد التصعيد والتوتر الذي وشم العلاقات التركية الأوروبية أيضًا في المرحلة السابقة، بات من الواضح أن تركيا تمر حاليًا بمرحلة اختبار للنوايا الأمريكية والأوروبية على السواء، من خلال ملف العراق وسوريا، صراع البحر الأبيض المتوسط الطاقوي، قبل أن تعيد خلط أوراق تحالفاتها المرحلية مع روسيا التي امتدت مؤخرًا الى عقر دار روسيا في أرمينيا عبر أذربيجان لابتزاز “حلفائها الأعداء” في سوريا.
بعد حربين عالميتين كبيرتين تراجع فيهما النفوذ البريطاني في العالم، تحولت بعدهما الولايات المتحدة الى أحد قطبي القوة الدولية، أعلنت بريطانيا في مرحلة ما أنها ما عادت قادرة على تحمل أعباء وتكاليف إدارة ملفات تعنون بـ”المصلحة العامة العالمية” وهو أمر اعتادت الدول ونظمها الدولية على القاء مسؤولياته على القوى الكبرى نظرا لكونها المنتفع الاكبر من هذا النوع من الملفات، وقد شهدنا في عصر ترامب انسحاب أمريكا من مسؤولياتها هذه، كانسحابها من “اتفاقية باريس للمناخ” والتلويح بالانسحاب من “منظمة الصحة العالمية”، وهو ما فهمته الدول عمومًا على أنه نوع من التراجع والضعف والاعتراف العلني بفقدان الصدارة والموقع الدولي.
إن أولى أولويات إدارة بايدن هي استعادة الدور الأمريكي المركزي في السياسات الدولية والعالمية، فكانت خطوة العودة الأمريكية الى اتفاقية باريس للمناخ، والتراجع عن الانسحاب من “منظمة الصحة العالمية”، كما سعى الى إعادة هيبة حلف شمالي الأطلسي “الناتو” متخطيًا أزمة المساهمات المالية للدول الأعضاء، بعدما كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد تذرع بها، كما خفف من ضغط قرارات ترامب المتعلقة ببعض الدول المسلمة وعملية الهجرة الى الولايات المتحدة، علمًا بأن جائحة كورونا ستسهم في عملية تخفيف الضغط بطبيعة الحال على أمريكا، وهو ما كان يتوخاه ترامب، بالتالي فهذا قرار سياسي في أهدافه.
إن سياسة واشنطن المعلنة والتي قد تتضح ملامحها أكثر في الربيع القادم، تحاول التحرك شرقًا، ليس فقط باتجاه الصين وإنما أيضًا باتجاه ما تبقى من شرق أوروبا، أو بكلام آخر باتجاه استمرار حصار روسيا والضغط عليها بالتزامن مع إشعال فتيل الحرب التي لن تكون كبقية الحروب مع الصين.
من هذه الزاوية يمكن قراءة المروحة التي يتحرك فيها اللاعب التركي حاليًا وخلفيات الموقف التركي قيد التبلور، أي من منطلق الحاجة الأمريكية مجددًا لإعادة إدارة اللعبة الجيوبولوتيكية القديمة بأساليب مستحدثة، وهذا تحديدًا ما تريد أنقرة أن تفعله لكن ليس بعنوانها “شريكًا استراتيجيًا” على خلفية شراكة الحرب الباردة، كما وصفها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جلسة استماع خاصة حول تركيا أو كتابع فقط، وإنما شريك استراتيجي متكافئ مع أمريكا له مصالحه الإستراتيجية في الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وشمال أفريقيا، وهو ما ألمح إليه رجب طيب أردوغان أواخر العام المنصرم من أن بلاده عازمة على تبوؤ مكانة مرموقة في عالم ما بعد جائحة كورونا، مضيفا إن أنقرة ترغب بتوطيد علاقاتها مع واشنطن لحل القضايا الإقليمية وانه يرغب في استثمار تحالفه الوثيق مع أميركا بشكل فعال لحل القضايا الإقليمية والعالمية كافة، ملمحًا مجددًا الى أن تركيا ترى نفسها في أوروبا وليس في أي مكان آخر.
نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو كان علّق على اجتماع بروكسيل لوزراء دفاع “الناتو” الأخير، بالقول إن “الولايات المتحدة تحاول، ومن خلال آليات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، جذب الحلفاء إلى خط احتواء الصين، وهو ما تجلى بكل تأكيد في بروكسل”. لكن اجتماع بروكسل لم ينته دون الإشارة الى تدهور العلاقات مع روسيا وضرورة “تحديث للمفهوم الاستراتيجي للناتو”، حسب الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ ” الذي لم يكن يأخذ في الاعتبار صعود الصين وتدهور العلاقات مع روسيا”.
الدعوة الى تحديث المفهوم الاستراتيجي للناتو، والموجهة ضد كل من الصين وروسيا، تتزامن مع دعوة ادارة بايدن، لجنة من الخبراء العسكريين والاسراتيجيين في مجالات متنوعة، لوضع مخطط استراتيجي لكيفية مواجهة الصين من مختلف الجوانب التكنولوجية والاقتصادية الى جانب العسكرية منها، خلال مدة زمنية لا تتجاوز الاشهر الاربعة ، في الوقت الذي يسعى الناتو والولايات المتحدة الى التوصل الى حل ما لأزمة أو ما يمكن تسميته معضلة “صواريخ اس 400 الروسية” لتركيا، والتي تعتبرها أمريكا وفق تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان “تقويضًا لتماسك حلف الناتو وفعاليته” هذا الحلف الذي يحاول استعادة جدواه من خلال التوسع شرقًا على خطي روسيا والصين، بقيادة الولايات المتحدة .
في ظل هذه المتغيرات الدولية المتلاحقة، يبدو أن تركيا قد تمكنت من جهة، من تحقيق انجاز يحسب لها في موضوع الصراع والتغيرات الجوهرية التي طالت الخارطة الجغرافية بين كل من أرمينيا وأذربيجان في المنطقة المتنازع عليها (قرة باغ)، حيث تمكنت أذربيجان من فتح ممر يصل بين جزئيها المنفصلين في الجنوب، لتمسك بورقة ضغط لا يستهان بها في وجه ايران وروسيا وإن لم تكن ثابتة، وتحاول حاليًا جس النبض الأمريكي في موضوع الإعداد لهجوم باتجاه الأراضي العراقية للتثبت من حقيقة الموقف الأمريكي ومدى مرونته فيما يتعلق بموضوع الأكراد، في العراق ولاحقًا ربما في سوريا.
إن تركيا تدرك جيدًا الأهمية الإستراتيجية لموقعها الفريد، وبعد أن كانت تعتبر جسر “الناتو” باتجاه آسيا، إبان الحرب الباردة، وهو دور تخفت أهميته مع توسع “الناتو” في أفغانستان والعراق (اسيا)، ترى اليوم أنها أصبحت مركزًا وسطيًا ذا ثقل أكبر في خارطة الصراع المقبل، نتيجة جغرافيتها المجاورة لعدد من الملفات التي تدخل في صميم اهتمامات الولايات المتحدة ومن خلفها حلف “الناتو”، فتركيا تتوسط معادلات الصراع في كل من البحر الأسود وامتداده الى دول شرق أوروبا كالخاصرة الروسية الموجعة في أوكرانيا والتواجد الروسي في شبه جزيرة القرم، وبحر ايجه وامتدادها الجغرافي الطبيعي الى دول البلقان، وصولًا الى شرق المتوسط وصراع الطاقة والقضية الفلسطينية، ثم شمال افريقيا في ليبيا، وقد تشكل مع الكيان الاسرائيلي لاعبًا أساسيًا في معادلات “الناتو” التوسعية وأمريكا في محاصرة سوريا ولبنان ومن خلفها روسيا من العراق تحديدًا.
وعلى المقلب الجغرافي الآخر، تعتبر تركيا مدخلًا من مداخل القوى المتصارعة على بحر قزوين نظرًا للعلاقات الإستراتيجية والتاريخية والثقافية الموجودة مع بعض دوله، بالتالي تعتبر جسرًا لا بد منه على آسيا الوسطى ولا سيما في معركة الصين ـ امريكا المرتقبة، كما لا يمكن اغفال استمرار وجود قاعدة إنجرليك الامريكية على أراضيها التي توفر الإمدادات اللوجستية في مختلف الاتجاهات التركية، وارتباطها برادار قاعدة كورجيك ورادر “تي بي واي 2” للكشف المبكر عن أي هجوم صاروخي بالستي باتجاه امريكا أو حلفائها.
رغم الامتيازات العديدة التي تتمتع بها تركيا جغرافيًا وعسكريًا، تمكنها حاليًا من المناورة يمينًا ويسارًا في المعادلات الدولية والتموضعات المرتقبة، إلا أن السير التركي أشبه ما يكون بالسير على حد السيف، قد تساهم أي قراءة سياسية غير متكاملة للمشهد الدولي وتناقضاته أو أي تقدير غير متوازن في إعادة تركيا الى داخل حدودها مع فائض من الأعداء.