مواجهة وحدود متداخلة بين الأوراسية والأطلسية “نهاية الحرب الباردة أنهت النقاش الأيديولوجي لا الجدل الجيوسياسي”
طموح الرئيس فلاديمير بوتين أكبر من إمكانات روسيا الاقتصادية. لكنه كلاعب “تايكواندو” يستغل نقاط ضعف الغرب، لا سيما أيام الرئيس دونالد ترمب الذي كان طموحه أصغر من إمكانات أميركا الاقتصادية وقدرتها العسكرية. وهو يتصور، كما قال للسفير الأميركي وليم بيرنز، أن “اللعب بيديه الضعيفتين بشكل قوي يتقدم على لعب الذين أيديهم قوية بشكل ضعيف”. لعب عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا فاستعاد لروسيا موقع القوة الأوروبية، ولعب عسكرياً في سوريا فاستعاد موقع القوة العالمية، ولعب بذكاء سياسي في حرب قره باغ، فترك أميركا وفرنسا خارج مجموعة “مينسك” ونجح في دور القائد الأوراسي. فما يعتقده هو أن “نهاية الحرب الباردة أنهت النقاش الأيديولوجي، لا الجدل الجيوسياسي”. وما يؤمن به ويعمل له بإلهام من المفكر ألكسندر دوغين هو: “نحن ضد الحلم الأوروبي لمصلحة الحلم الأوراسي”. وما “خدم برنامجنا” وقوّى “الاتجاهات الراديكالية” في روسيا والصين هي سياسة ترمب، كما قال دوغين. أيّ سياسة؟ التشجيع على الخروج من الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدة وإهانة حلفاء أميركا الأوروبيين في “الناتو” قبل أن يتراجع عن القول إن الحلف “تقادم في الزمن”.
لكن أميركا عائدة بقوة مع الرئيس جو بايدن إلى التشديد على التحالف الأطلسي. واللعب الجيوسياسي سيكون بين الأوراسية والأطلسية. الأولى هي تحالف أوروبي- آسيوي يطمح بوتين إلى قيادته، ويتقدم الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى القيادة التي قد تصبح ثنائية. والثانية هي التحالف الأميركي- الأوروبي في “الناتو” الذي أنشئ لمواجهة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، واستمر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحل حلف “وارسو” ثم توسع في بعض الجمهوريات التي كانت سوفياتية أو في المعسكر الاشتراكي، وصارت له مهام في أفغانستان وكل آسيا. وليس واضحاً إلى أي مدى تريد الصين التي صارت قوة عظمى، أن تذهب في توسيع دورها العسكري مع توسع دورها الاقتصادي، إذ بلغ دخلها القومي 16 تريليون دولار لشعب من 1.5 مليار شخص. لكن الظاهر أن روسيا التي دخلها القومي 1.6 تريليون دولار وعدد سكانها 143 مليون شخص، تضع نفسها في مواجهة مع أميركا التي سكانها 350 مليون شخص ودخلها القومي 18 تريليون دولار، وأوروبا التي سكانها 450 مليون شخص ودخلها 38 تريليون دولار.
واللاعب الجديد الذي يوظف بوتين دوره بمقدار ما يتصور هو أنه يوظف بوتين ويلعب بينه وبين رؤساء أميركا وأوروبا، هو الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان. ذلك أن أردوغان يبحث في سوريا والعراق وليبيا و”الوطن الأزرق” والقوقاز والبلقان عن دور لتركيا، التي صار دورها أقل أهمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إذ خلال الحرب الباردة كانت تركيا صاحبة الجيش الكبير ضمن حلف “الناتو” هي “الحاجز الأطلسي” في وجه التمدد السوفياتي نحو المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط. اليوم صارت روسيا في سوريا ولها قاعدتان بحرية في طرطوس، وجوية في حميميم، وتركيا على تفاهم معها، وتشتري منها صواريخ “أس400” ضد رغبة أميركا والأطلسي. والسؤال هو: إلى أي حد يمكن تغيير الجيوبوليتيك التاريخي والحروب والعداء بين روسيا وتركيا، من “أيام القياصرة والسلطنة العثمانية إلى أيام السوفيات والجمهورية الأتاتوركية”؟ وهل تستطيع تركيا العضو في الحلف الأطلسي، بصرف النظر عن طموح أردوغان، أن تصبح جزءاً من الأوراسية من دون الخروج من الأطلسية؟
التحديات أمام أردوغان ليست فقط أميركية وأوروبية بل أيضاً داخلية. وإذا كان “الانقلاب الفاشل”، المتهم بتدبيره شريك أردوغان السابق مؤسس حركة “خدمة” والمقيم في أميركا فتح الله غولين، قد سمح للرئيس التركي بتطهير الجيش من الضباط الأطلسيين بحجة أنهم من أنصار غولين، والاعتماد على الضباط الأوراسيين، فإن من الصعب التخلص من دور الجيش الحامي للعلمانية والمحتاج إلى الأسلحة الغربية. وفي أحدث استطلاع للرأي عبر “متروبول” للبحث أفيد بأن 25 في المئة من السكان لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الأساسية، وأن أكثرية من مؤيدي أردوغان و63 في المئة من الأتراك يرون أن تركيا تتجه نحو الأسوأ”. ويقول علي باباجان رفيق أردوغان في تأسيس حزب “العدالة والتنمية” ونائب رئيس الوزراء الذي كان وراء النهضة الاقتصادية، ثم استقال وأسس حزب “الديمقراطية والتقدم”، أن أردوغان “جلب العار لتركيا بسبب تدخلاته الخارجية وسياسته التي أدت إلى عزلة تركيا في محيطها الإقليمي كما في الساحة الدولية”.
لكن الأوراسية لا تزال من دون هيكل كامل، في حين أن الأطلسية مبنية على تحالف متين وثابت. واللعبة بينهما ليست معادلة صفرية لا بالنسبة إلى بوتين وشي ولا بالنسبة إلى بايدن. والبقية كومبارس.