الوقت – في مقال نشرته مؤخرًا صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، حذَّر “يوفال ديسكين” الرئيس السابق لجهاز الأمن الإسرائيلي العام “الشاباك”، من خطر زوال الكيان الصهيوني بعد جيل(25 عامًا)، وقال إن “الأخطار التي تهدد وجود إسرائيل ليست خارجيةً، بل داخلية”.
القضية المهمة والمثيرة للتفكير الآن هي، أنه أثناء تعداده للأزمات الداخلية التي يعاني منها الکيان، فإنه يقرّ بإمكانية تدمير الدولة الصهيونية وزوالها نتيجةً لهذه الأزمات؛ وهي أزمات تحدث في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، ولكن الآثار السلبية الخطيرة لهذه الأزمات عادةً ما تقدَّر بإمكانية الثورة وإسقاط النظام السياسي وحتى تفكك الدول، وليس التدمير الكامل لبلد ما.
وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، لماذا تری السلطات السياسية الصهيونية والنخب العلمية أن زوال هذا الکيان وما يسمونه الدولة أمر مفترض وممكن؟
فرض نظام ذي مصالح إمبريالية على المنطقة
إن أحد الأسباب الرئيسة لخوف قادة الكيان الصهيوني من الزوال، هو الطبيعة المصطنعة والمفروضة لـ”إسرائيل”، الأمر الذي جعلها عضواً غير عادي وغير متوافق مع الدول الأخرى في المنطقة، ومجموعة الدول التي تعيش معاً في منطقة واحدة.
ولذلك، لا يستطيع الکيان الصهيوني التكيُّف مع البيئة التي يعيش فيها، وأن يصبح عضوًا متوافقًا مع الأعضاء والمكونات الأخرى للنظام الإقليمي.
إن الأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط باعتباره قلب التطورات العالمية في النصف الثاني من القرن العشرين ومسألة نفط، جعلت الإمبريالية الغربية تدرك ضرورة إقامة موطئ قدم لها للتدخل في المنطقة. ولذلك، كان لا بد من زرع عنصر في المنطقة من الخارج، من أجل توفير موطئ قدم قوي للقوى الغربية لاستغلال المنطقة.
في الواقع، إن الكيان الصهيوني كداعم لتقسيم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، خدم أمريكا لمدة أربعة عقود في واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم. لذلك، کانت “إسرائيل” منذ نشأتها في خدمة الإمبريالية الغربية كثكنة عسكرية، أكثر من أي شيء آخر.
يمكن فهم طبيعة الکيان الصهيوني لکونه تابعاً وأداةً للغرب، من خلال النظر إلى اعتماده الكامل على الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الأجنبي.
حيث يتحدد الوضع الاقتصادي للکيان الإسرائيلي إلى حد كبير من خلال دوره كشرطي للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. کما يتلقى مساعدات أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ومعظمها ينفق في المجال العسكري.
ولهذا السبب، وبعد دعم بريطانيا الثابت لإقامة الدولة الصهيونية في وعد بلفور(1917)، أصبحت الولايات المتحدة داعمًا رئيساً للصهاينة بعد نجاحها في الحرب العالمية الأولى، ومحاولتها لعب الدور في تطورات الشرق الأوسط.
أقرت أنشطة “المنظمة الصهيونية الأمريكية” خلال الحرب، زيادة المهاجرين اليهود إلى فلسطين إلى حد إقامة دولة صهيونية. وقد أعلن الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” دعمه القوي للخطة الصهيونية. كما فعل “ترومان” من بعده الشيء نفسه، واستمر هذا الدومينو حتى يومنا هذا.
“إسرائيل” دولة بلا شعب
على الرغم من أن الدولة الصهيونية تمتلك ظاهريًا جميع العناصر المكونة للدولة، أي الأرض والسكان والسلطة، ولكن فإن الشعور بغياب عنصر الأمة(شعب لديه شعور عام بالانتماء إلى تاريخ مشترك والرغبة في العيش معًا)، باعتباره العنصر المكوِّن الرئيس لأي بلد، موجود بقوة في هذا الکيان منذ البداية، ولا يزال هذا الأمر قائماً بعد مضيّ 70 عامًا.
ولذلك، ذكر رئيس الشاباك السابق هذا العنصر المهم، في ذكره لبعض أسباب القلق من تدمير “إسرائيل” في المستقبل القريب.
حيث قال ديسكين: “وفقًا لوقائع وبيانات مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل، بعد 40 عامًا، سيكون نصف المواطنين الإسرائيليين من الحريديين والعرب، وأهمية هذا الأمر هو أن نعرف القاسم المشترك بين هاتين المجموعتين اليوم، ولماذا سترسمان صورة الحكومة في المستقبل، وتؤثران على سلطتها ووجودها بعد 30 أو 40 سنة أخرى”.
على الرغم من أن هذا المسؤول الصهيوني يشير إلى مجموعتين اجتماعيتين فقط، ولکن هذا الکلام ينطبق على جميع اليهود الذين يعيشون في الأراضي المحتلة.
إن اليهود الذين يعيشون في الأراضي المحتلة اليوم، قد اجتمعوا من جميع أنحاء العالم في إطار مشروع سياسي مخطط له، وكان سبب هجرتهم إما التطورات بين الحربين العالميتين أو البحث عن حياة مزدهرة. لذلك، لا يزال جزء كبير من اليهود يعتبرون هويتهم الوطنية في مكان ما خارج الأراضي المحتلة وجنسية أخرى.
کما يعترف ديسكين قائلاً: “يفضِّل الكثير من اليهود العيش في مكان آخر غير الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
واليوم يواجه الکيان ظاهرةً تسمى “الهجرة العكسية”، حيث يغادر المستوطنون “إسرائيل” ويهاجرون إلى دول أخرى لأسباب مختلفة، ولا سيما استمرار انعدام الأمن والفشل في تحقيق حلم “الرفاه الاجتماعي”.
انتهاء صلاحية الأيديولوجية الصهيونية
الصهيونية هي لاصق أيديولوجي يربط الدولة الصهيونية ببعضها البعض. تؤمن الصهيونية بأن اليهود هم شعب الله المختار، وأن فلسطين هي الأرض التي اختيرت ليعيشوا فيها.
کما غذَّت الصهيونية وعزَّزت باستمرار فكرة أن اليهود لا يندمجون أبدًا في شعوب أخرى، وبالتالي يتعين عليهم تكوين أنفسهم في دولة تتوافق مع جنسيتهم. وقد تم التأكيد علی هذا التفسير للنصوص الدينية(التوراة والتلمود) في شكل وثائق تاريخية وتراث يهودي، من قبل الأقسام العلمانية والمعادية للدين.
ومع ذلك وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، تعزَّزت الميول الدينية، وبالتالي تم إضفاء الطابع المؤسسي على الفجوة بين الأصوليين الدينيين والعلمانيين الداعين لما بعد الصهيونية.
وفي مثل هذه الظروف، لا يستطيع الکيان الصهيوني إدارة النزاعات الدينية كما يحلو له. والأحزاب والحركات الدينية تريد تعريف الکيان الصهيوني على أنه نظام يهودي، وإضفاء الطابع المؤسسي على التمييز الديني.
هذا في حين أن الأحزاب والتيارات العلمانية، ومع التأكيد على الطبيعة العلمانية لهذا الکيان، تحاول دمج الأقليات غير اليهودية في هذا المجتمع، وهذا ما كشف التناقضات الخفية في الأيديولوجية الصهيونية أكثر من أي وقت مضى.