توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية أمام شكل ومضمون السجال المتمادي من دون أفق. وإن كان هذا الجدال يتمحور حول العجز عن تشكيل حكومة، فإنه يُقارب مختلف الوجوه الأخرى من الأزمات المتشابكة. والى الاعتقاد الذي يتعزّز يومياً بصعوبة ان يقنع أحد خصومه بوجهة نظره، فإنّ الخوف الجدي من أن تطول المواجهة في السباق على حساب ما تبقى من «فتات وطن» و»بقايا دولة». وعليه، ما الذي يؤشّر الى هذه المعادلة؟
كان يمكن الافادة من المرحلة التي كان فيها العالم منشغلاً بالمتغيّرات الكبرى قبل أن تتحوّل «فرصاً ضائعة»
تتوالى المواقف والتصريحات التي جنّدت لها مختلف الامكانات السياسية والاعلامية على وَقع مَساع قائمة للفرز بين اللبنانيين وتوسيع رقعة الشرخ في ما بين المكونات السياسية والحزبية الى حدود اشتعلت معها مشاعر وعقول اللبنانيين المُكتوين بنيران الازمات المتناسلة من اقتصادية ونقدية، الى تلك التي تسبّب بها انهيار سعر الصرف وتبخّر مدّخرات اللبنانيين، عدا عمّا تركه انفجار مرفأ بيروت من مظاهر النكبة التي لم يعرفها لبنان منذ ولادته، رغم جولات العنف التي شهدتها العاصمة. واعتقد كثر أنهم تجاوزوها منذ زمن، وانّ المرحلة هي للبناء والتعافي قبل ان تنهار مختلف القطاعات الحيوية والخدماتية التي تعني اللبنانيين في حياتهم اليومية قبل عامين.
كلّ المؤشرات السياسية والاقتصادية التي تستند الى مجموعة من الارقام والإحصائيات التي لا يرقى اليها أي شك، توحي بما هو أسوأ. وإن كان بعض اللبنانيين يعتقدون انهم قادرون على تجاوز المحنة في وقت قريب، وانّ أبواب الفرج لن تكون بعيدة. فبلد بحجم لبنان لا يتجاوز حجم اقتصاده وأزمته المالية ما يمكن ان تعيشه مؤسسة او مصنع كبير في دولة كبرى، يمكنه معالجتها بالقليل من النقد «الطازج» الذي يمكن أن يتوافر عند إحياء الحد الأدنى من الثقة التي يوحي بها التفاهم على بعض الخطوات الداخلية التي ما زالت بيد اللبنانيين، من دون استبعاد ان يفتقدوا زمام المبادرة في أي وقت.
وفي رأي مراجع سياسية وديبلوماسية اطّلعت على بعض الاقتراحات المتداوَلة انّ بعض الخطوات المطلوبة كانت ممكنة بما هو متوافر من قدرات هزيلة ومحدودة يمكن ان تستدرج الحد الأدنى من الثقة المفقودة بالسلطة وأركانها. فيكفي أن يتراجع البعض عن مطالبه التعجيزية وصولاً الى مساحة مشتركة يمكن أن تجنّب البلاد توفّر معظم السيناريوهات الخطيرة، وربما الانتحارية مهما أسبغت عليها من أوصاف مثالية وأخرى ديماغوجية. فعند بعض الوسطاء من محليين وديبلوماسيين بعض الاقتراحات التي يمكن ان تحول دون الأسوأ فتلجم الانهيار القائم وتضع حداً يحول دون مواقف وخطوات خارجية قد تكون اكثر إيلاماً.
كان بعض الوسطاء، ومعهم ديبلوماسيون، يعتقدون انّ النكبة التي تسبّب بها انفجار «عنبر الفساد» في مرفأ بيروت قد تغيّر شيئاً في أداء بعض اهل السلطة واركانها ممّن يمسكون بزمام الامور، وقد يتراجعون عن بعضٍ من طموحاتهم التي تجاوزت بتردداتها السلبية حدود الوطن وجَعلتهم في عزلة دولية وإقليمية غير مسبوقة منذ انتفاضة «17 تشرين» 2019. وبَدل من أن يَستشعروا حجم النكبة التي حَلّت ببيروت لم يحرّكوا ساكناً ولم يفاجئوا اللبنانيين بأي خطوة تُعيد اليهم الأمل بوجود مَن استوعَب ما أدّى اليه انفجار المرفأ، من ضحايا وخسائر في الارواح والممتلكات العامة والخاصة. وما زاد في الطين بلة انهم استعانوا بنظرية «القصب الذي يلوي مع العاصفة لئلّا تكسره الريح»، اعتقاداً منهم انّ ما حَلّ بالبلد وعاصمته فرصة قد لا تتكرر، وقد تُعيد الاعتبار لهم في مواقعهم ومناصبهم.
وعليه، سقطت معظم النصائح والمبادرات التي كان يمكن ان تأتي بحلٍ ما، فسقطت كل المبادرات الداخلية تزامناً مع تعثّر «المبادرة الفرنسية» التي كان يمكن الافادة منها في تلك المرحلة التي كان فيها العالم مُنشغلاً بالمتغيّرات المتوقعة في كثير من دول العالم وخصوصاً في الإدارة الأميركية والى أن تنجح الدول الكبرى في السيطرة على جائحة «كورونا» لإعادة ترميم ما أفسدته، في الاقتصاد الدولي وما نتج منها من انهيارات في عدد من القطاعات الكبرى التي مَسّها الاغلاق الدولي وانقطاع التواصل بين االقارات والدول، فعَبرت «الفرص الذهبية» من دون ان يتلقّف اللبنانيون المرحلة التي قد لا تتكرر مرة أخرى.
كان من الممكن ان يكون لبنان اليوم بعد 6 أشهر على «المبادرة الفرنسية» في مكانٍ آخر، فخريطة الطريق التي طرحتها ووافَق عليها اللبنانيون لم تكن معقدة، والتفاهم على تشكيل «حكومة مهمة» ولفترة مؤقتة لم تكن خطوة مستحيلة. فكل الاوساط السياسية كانت تقدّر حجم الضغوط الدولية والداخلية، وان لا بدّ من خطوة متواضعة تَفي بالغرض لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بدءاً من الحصول على حصّة لبنان منه، والتي يمكن الحصول عليها قبل المفاوضات التي ستقود الى إحياء الدعم الخارجي المفقود منذ فترة. والاجواء كانت توحي بتَوافر الظروف التي تُحيي برامج الدعم التي وضعتها الدول والمؤسسات المانحة، ولو بخطوات متواضعة تنطلق من التعاطف الدولي مع مأساة اللبنانيين.
لقد كان كافياً أن يُعقد العزم على إطلاق بعض الاصلاحات في بعض القطاعات المُنهارة والشروع في إصدار بعض القوانين التي توافقت أكثرية اللبنانيين عليها، وخصوصاً في إصدار قانون «الكابيتال كونترول» الذي ينظّم العلاقة بين المصارف وعملائها قبل تراجع موجودات مصرف لبنان من العملات الصعبة الى الحدود الدنيا بعدما استنزَفتها سياسة الدعم، وصولاً الى المَس بالاحتياط الالزامي. وقد كان ذلك مُمكناً تزامناً مع السَعي الى توحيد الخسائر التي طاوَلت مصرف لبنان والقطاع المصرفي قبل إطلاق التدقيق الجنائي بعد تعديل المواد المانعة في قانونَي السرية المصرفية والنقد والتسليف، بعدما وضعت المشاريع الاولية لها قبل إطلاق التدقيق الجنائي في مصرف لبنان والقطاع المصرفي والوزارات والمؤسسات العامة في البلاد بطريقة يحترم فيها التوازن المطلوب عند مقاربة مصادر الهدر التي أشارت اليها التقارير الاستقصائية، ولم يعد هناك سر يخفى على أكثرية اللبنانيين.
وانطلاقاً ممّا سبق، باتَ واضحاً انّ فصول المواجهة المفتوحة مستمرة بين أطراف التسوية السياسية التي أسّست للعهد قبل 4 سنوات، ولا يحول دونها الخوف، انها بلغت «القتال الشرس» على ما تبقّى من «بقايا الدولة» المهددة بالانهيار الشامل و»فتات» وطن يقترب من الانحلال لمجرد سقوط شعبه في تجربة الفقر والقلق المشروع على المستقبل، وهو ما يُنذر بما هو أسوأ.