الأخبار- ابراهيم الأمين
كان أنيس حاسماً في تبنّيه لموقع الثورة الاسلامية الايرانية والقوى المقاومة الملتصقة بها في مشروع تحرير فلسطين. كان من الذين بكّروا في اعتبار الجهادية الاسلامية الشيعية ركناً اساسياً في معركة التحرير الكبرى. وهو لم يكن يشعر بأن طبيعة العقيدة التي حكمت الثورة في ايران ستكون مانعاً امام قيام تحالف عربي – إسلامي، ليس بالمعنى الجغرافي أو العرقي، بل بالمعنى العقائدي، أي بإمكان قيام تحالف بين معتنقي الفكر الجهادي الاسلامي ومعتنقي الفكر القومي العربي، وأن بمقدور هذا التحالف أن يمحو فكرة هواجس الاقليات الطائفية أو حتى العقائدية، ويتيح قيام جبهة كبيرة تنتشر على طول العالم العربي والاسلامي وتتيح الوصول الى آلية تنهي حكماً الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتحرر العالم العربي من أنظمة تابعة للاستعمار الغربي.
ما استجد امام أنيس وآخرين كتحدٍ، هو ما رافق صعود الجهادية السنية مع خروج مجموعات كبيرة من رحم الاخوان المسلمين أو الفرق السلفية وانضوائها في معارك ذات طابع تحرري. لم يكن أنيس معجباً على الاطلاق بالتحالف بين تنظيم القاعدة والحكومات الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، لكنه كان مقتنعاً بأهمية حصول تحولات كبيرة تقود الى جعل «القاعدة» منخرطاً بصورة مباشرة في المعركة الكبرى ضد الاحتلال الاميركي وضد إسرائيل على وجه الخصوص.
ومع تعزز وجود تنظيم «القاعدة» ونفوذه بين قواعد الشباب الجهادي السنّي، وأمام تخاذل القيادة التقليدية للقوى الاسلامية السنية، جاءت غزوة 11 ايلول وما تلاها من معارك كبرى في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم العربي والاسلامي. لم يكن أنيس ليبرر ما قام به «القاعدة»، خصوصاً ضرب أهداف ذات طابع مدني، لكنه لم يكن ليدين مثل هذه الاعمال إن كانت تصعّب على الاميركيين معاركهم ضد الشعوب العربية والاسلامية. وما تبادر الى ذهنه في ذلك الحين، هو كيفية استغلال المواجهة بين الغرب بقيادة أميركا وحلفائها العرب، وبين تنظيم القاعدة بفروعه كافة، من أجل جرّ الحركة الجهادية السنية الى قلب المواجهة مع اسرائيل أولاً، بالتوازي مع مواجهة مركزة ومنسقة ومدروسة ضد قوات الاحتلال الاميركي في العراق أو أي منطقة اخرى من العالم العربي والاسلامي.
في تلك السنوات التي ضجت فيها النقاشات الصعبة، كان أنيس يطرح الاشكالية الصعبة والمعقدة، بل المستحيلة، وكان سؤاله: ألا يمكن لعنوان تحرير فلسطين أن يكون هو منطقة التفاهم المشتركة بين الجهاديتين السنية والشيعية، ما يجعل العالم كله ينشغل في مواجهة اقوى جبهة عربية – اسلامية من شأن توحدها هزيمة الاحتلال الاميركي واسقاط عروش الانظمة العميلة للغرب والشروع في خطوات كبيرة نحو تحرير فلسطين؟
كان له على الدوام ما يرويه من تجارب تؤكد أنّ تبدّل حمَلة الرايات لا يلغي أن القضية الاساس تبقى إزالة إسرائيل
سيكون من الصعب اليوم استعادة كل النقاشات التي جرت حول هذه الفكرة في كل الاماكن والعواصم والعقول المعنية. لكن أنيس، الذي أحزنه السلوك غير المنطقي للتنظيمات السلفية في العراق وسوريا والجزيرة العربية، لم يكن شديد السرور بحالة «التقوقع» التي ظهرت على قوى شيعية في العراق تحديداً. وكان نقاشه وسجاله عنيفَين مع هؤلاء، وحتى مع الايرانيين وحزب الله. وكان يرى في التطرفين خطراً مشتركاً فيه أهوال تفوق بكثير أهوال أي تحالف جهادي بين الفرقتين المقاتلتين عند الجهاديين السنّة والشيعة.
لم يكن أنيس متهوراً كما يعتقد بعض من كان يسمع صوته مرتفعاً. لكنه مات وهو يرفض منطق التسويات الجانبية في هذه المنطقة أو تلك. وكان البارز في محطته السياسية الاخيرة، اقترابه من منطق التلازم بين شعاري التحرير والتغيير الداخلي. ولم يكن يقبل او يبرر الصمت على موبقات حكومات وانظمة وقوى وشخصيات لمجرد انها تعلن تأييدها للمقاومة. ولم يكن يخفي حماسته ودعمه لفكرة العمل المقاوم الداخلي بموازاة المعركة الكبرى في مواجهة جيوش الاحتلال والاستعمار. وهذا ما جعله يبدو في بعض الاحيان كمن أخذ مسافة من الاستراتيجيات الكبرى، علماً بأنه لم يفته يوماً، أن حماية قدرات المقاومة وقوتها في لبنان وفلسطين يجب أن تبقى أولوية رئيسية، لكنه كان يؤمن بوجود إمكانية لمواءمة ما، بين فكرتي التحرير والتغيير، ولو تطلب الامر بعض التضحيات وبعض القسوة ايضاً.
شكّل المناضل الاممي أنيس النقاش حلقة واصلة بين ثلاثة أجيال شاهدة على المعركة الكبرى في وجه الاحتلال الصهيوني وداعميه وحلفائه في المنطقة والعالم. وكان له على الدوام ما يرويه من تجارب تؤكد أن مواجهة الاستعمار هي الثابت الوحيد، وأنّ تبدّل حمَلة الرايات لا يلغي أن القضية الاساس تبقى إزالة إسرائيل باعتبارها مصدر الشرور التي تصيب شعوبنا.
رحل أنيس فجأة، لكن أفكاره السجالية ستبقى حاضرة من زاوية حث الناس على التفكير كل يوم، في ابتداع آليات وأطر وطرح افكار تجمع شمل الأمة، وتقودها نحو نصر أكيد.