كريستال خوري -أساس ميديا-
4700 كلمة خصّصها جبران باسيل للاستجابة للأزمات الراهنة، اختار اختزالها في بداية كلامه بـ”أخطر أزمة وجودية”، لاستدراكه بعد أكثر من سنة ونصف السنة على قيام انتفاضة 17 تشرين الأوّل، مدى خطورة الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي والنقدي والإنساني، بحيث باتت كل دقيقة من عمر العهد والبلد، يٌحسب لها حساب، لأنّها تضيّع فرصة وقف التدهور الدراماتيكي الذي سيُسقط الهيكل فوق رؤوس الجميع.
ومن الطبيعي أن تحتلّ الحكومة هامشاً واسعاً من خطاب رئيس “التيار الوطني الحرّ” لأنّها المحطة المفصلية لانطلاقة قطار المعالجة، إذا ما قُدّر له أن ينطلق قبل فوات الآوان، وليردّ على رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري الذي حمّل العهد مسؤولية التعطيل والعرقلة وبالتالي الانهيار، وذلك من على منبر 14 شباط الفائت. حمّل العهد بركنيْه، الرئاسي الذي يمثّله رئيس الجمهورية ميشال عون، والسياسي والذي يمثّله باسيل.
وأسوةً بكلّ إطلالة اعلامية، يثير وزير الخارجية السابق موجة عارمة من ردود الفعل عبر مواقع التواصل الالكتروني ليتحوّل إلى مادة دسمة للجيوش الالكترونية المؤيّدة وتلك المعارضة. وقد تبيّن وفق رصد سريع أنّ تركيز المؤيدين والمحازبين انحاز إلى شعار “أعطونا الإصلاح وخدوا الحكومة”، فيما انجرفت أفكار المعارضين وحتّى بعض المستقلّين نحو خلاصة وحيدة: جبران باسيل يكذّب جبران باسيل.
وفق جردة مقتضبة وعامة لأبرز المواقف التي أطلقها رئيس “التيار الوطني الحرّ” والتي صنّفت في خانة التناقضات، يتبيّن الآتي:
– الموقف من مشاركة “التيار” في الحكومة: لهذا الفريق مصلحة استراتيجية وقصوى وغير قابلة للجدل حول ضرورة قيام حكومة: “نحنا بدّنا حكومة لأن مش معقول العهد يكون بدّو يترك حالو من دون حكومة!” ويدّعي باسيل أنّ فريقه قدّم تنازلات في سبيل تحقيق هذا الهدف: “عملنا كل التنازلات لدرجة عدم المشاركة بالحكومة وبلّغنا هالموقف” (لم يكشف هذه التنازلات)… ومع ذلك، تغرق مشاورات الحكومة في مستنقع “بدي وما بدي” و”وزير هنا وحقيبة من هناك”، في وقت تسنّى لـ”التيار” أن يكون راعياً سياسياً لحكومة من لون واحد وهي حكومة حسان دياب التي ضُربت من بيت أبيها ولم تتمكّن من تحقيق أي انجاز رغم إصرار رئيسها ومحاولاته المتكرّرة، ولم يفهم اللبنانيون لماذا فشلت أو أفشِلت هذه الحكومة! ولماذا لا تزال حكومة سعد الحريري غارقة في “كشتبان” الخلافات رغم أنّ دولة عظمى كفرنسا تعمل لتسريع قيامها خشية من انقلاب الطاولة.
– الموقف من ترؤّس سعد الحريري الحكومة: سبق للعهد ولـ”التيار” أن ألمح بالمواربة وبالمباشر أنه غير متحمّس لخيار الحريري، باعتباره “جزءاً من منظومة فاسدة ولا يتمتع بمواصفات تسمه له بقيادة الورشة الإصلاحية”. ومع ذلك ترأّس الحريري أولى حكومتيْ العهد، الا إذا سقط في حينه واقع عدم كفاءة رئيس “تيار المستقبل” عن بال العهد الذي اضطر الى اختبار قدراته لأكثر من ثلاث سنوات من عمر ولايته!
مع ذلك، “تباكى” باسيل على هروب الحريري من المسؤولية اثر انتفاضة 17 تشرين الأوّل: “كنا مفكرين انّو الأزمة بـ17 تشرين 2019 بتخلّي رئيس الحكومة وقتها يتحمّل المسؤولية مع شريكه الدستوري رئيس الجمهورية (والفريق المتفاهم معه)، مش ينقلب عليه ويطعنه بظهره ويستقيل من دون ما يخبّره حتّى، ويركب موجة الحراك ليتنصّل من المسؤولية ويحمّله ياها”. ما يعني أنّ العونيين كانوا متمكسين بالحريري ويريدونه في قلب السلطة لا خارجها، متجاهلين “علّاته” على حد قولهم، من ثم عادوا لإقناع حلفائهم بالسير بمرشح سنيّ آخر، وهو سيناريو لا يزال حاضراً على طاولتهم حتى لو كان من دون أفق، الا أنّ باسيل قال أمس “نحنا صار بدّنا حكومة برئاسة الحريري، رغم قناعتنا انّو ما بيقدر يكون عنوان للإصلاح ومنشان هيك ما سمّيناه. ولكن من بعد ما تسمّى خلافاً لرغبتنا، صار في مصلحة يشكّل حكومة ويتحمّل المسؤولية مع الرئيس من بعد ما هرب منها بتشرين 2019.”
– الموقف من الثلث المعطّل: إذا ما تجاوزنا السقطة الشكلية التي وردت على لسان باسيل باعتباره الثلث المعطّل “جزءاً من الدستور، منصوصاً عن كيفية استعماله بالتفصيل كضمانة للشراكة بمجلس الوزراء”، كونها واقعة غير صحيحة، حتّى هو نفسه عاد وأوضح أنّه “بحسب محاضر اتفاق الطائف، وشهادة عدد من النواب منّن المرحوم جورج سعادة بكتابه عن الطائف، هو حقّ لرئيس الجمهورية لوحده. هيدا الشي كان أساسه تعويض لرئيس الجمهوريّة عن الصلاحيّات المأخوذة منه وضمانة لدوره الميثاقي بالنظام”، فلا بدّ من التوقف عند معادلة “سوريالية” كرسها كلام باسيل.
يقول بداية إنّ “الثلث منّو تهمة”، ثم يعود ليستدرك: “نحنا بهالحكومة بالذات مش عاوزين الثلث، لأن من جهة، هيدي آخر حكومة بالعهد وأكيد ما بدّنا ياها تستقيل، ومن جهة ثانية، لأن الرئيس القوي لمّا بيمارس دوره عن حق بجلسات مجلس الوزراء ما بيحتاج للثلث بعدد من الأمور، ومن جهة ثالثة، لأن ببعض الأمور الأخرى منعرف انّو نحنا وحزب الله بيكون عنّا الثلث نظرياّ (وهلق بشرح ليش نظرياً)؛ ونحنا عنّا ثقة انّو حزب الله بيلتزم بكلمته لمّا منكون متفقين معه”… لينهي كلامه بتوليفة “تشريع” هذا الثلث من خلال “التحالفات” فيقول: “لكن مع حلفائه طبعاً بيقدروا يكون عندن هالتلت اذا اتفقوا. الطاشناق مثلاً حلفاء ولكنّهم حزب مستقّل، وعندن قرار مستقّل وعلى أساسه سمّوا الحريري ونحنا ما سمّيناه”. فماذا نكون قد فهمنا: بدو تلت أو ما بدو؟!
ختاماً، نعود إلى البدايات، إلى توصيف الأزمة “الوجودية”. محاججة باسيل المطوّلة تشي بأنّ “البلد ماشي والشغل ماشي” ولا مانع من مناكفة رئيس الحكومة المكلف في عدد الوزراء وفي حقائبهم، وكل هذا تحت عنوان معركة “الحقوق المسيحية”.
يفترض بذلك أنّ نفهم أنّ كلّ الحكومات السابقة التي شارك فيها “التيار” احترمت هذه الحقوق، التي لم يعرف المسيحيون كيف تمّ توظيفها، وما هي الإنجازات التي تمّ تحقيقها باسمها كي يفكروا مرتين لا أكثر قبل التقدم بطلبات هجرة من البلد.