كمّ من مرّة تساءل المواطن اللبناني، كيف يُمكن أن يكون هناك سعر صرف للدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء نهار أحد – أي يوم عطلة – وحيث لا أذونات للخروج من المنازل عملا بقرار وزارة الداخلية؟ كيف يتمّ تحديد هذا السعر ومن أين يأتي؟ سؤال مشروع لأن ما يُحكى عن سعر صرف دولار في السوق السوداء أمس البارحة ما بين 9375 و9450 ليرة لبنانية لكل دولار واحد في ظلّ إقفال عام، هو دليل واضح على أن الأسعار التي تُعطى على التطبيقات الموجودة على أجهزة الهاتف الخليوية، هي أسعار لا تعكس إلا رغبة من يُدخلها إلى التطبيقات!
من الطبيعي القول ان السوق السوداء هي سوق غير شرعية، وبالتالي خارجة عن أي سيطرة رقابية وعرضة للملاحقة القانونية والعمليات فيها تتمّ بشكل غير شفاف. وإذا كانت هذه السوق عرضة للملاحقة، فلماذا لا تتمّ مُلاحقة المتورطين فيها والمُشغلين للتطبيقات على الأجهزة الخليوية عملاً بأحكام المادة 319من قانون العقوبات؟
في الواقع السكوت عن هذا الأمر هو ضربة كبيرة لهيبة مؤسسات الدولة الرقابية، فالمنظومة التي تقوم بتشغيل هذه التطبيقات هي نفسها التي تحصد الأرباح على أرض الواقع.
إن التعميم الأخير الصادر عن وزارة المال بخصوص تحصيل الضريبة على القيمة المضافة على سعر السوق السوداء، شرّع هذه الأخيرة وجعلها ملجأ للشركات التي تستورد مباشرة أو تشتري من شركات وسيطة.
على كل الأحوال، السؤال الأساسي : لماذا ارتفع سعر صرف الدولار في هذه السوق في اليومين الأخيرين على الرغم من الإقفال العام؟
في الواقع، المضاربون يراهنون على أربعة عوامل جعلتهم يقومون بتسليم 50% فقط من الكميات المطلوبة. هذه العوامل هي:
أولا – الانسداد في الأفق لناحية تشكيل حكومة في المدى المنظور نظرا إلى التعقيدات الأخيرة على المشهد السياسي والتصلّب الناتج من هذه التعقيدات.
ثانيا – التوقّعات بقرب انتهاء الدعم المُقدّم من قبل مصرف لبنان، وبالتالي توجّه الطلب نحو السوق السوداء، مما سيزيد حكما الطلب ومعه الأسعار، وهو ما يدفع المضاربين إلى وقف تسليم الدولارات.
ثالثا – عمليات التهريب المُستمرّة التي تأكل قسماً لا يُستهان به من الدولارات في السوق، خصوصا في هذا الطقس البارد.
رابعا – توقعات بزيادة الطلب على الدولار من قبل المواطنين والشركات كعمل استباقي لارتفاع سعر صرف الدولار.
تاريخيا، هناك محطتان رئيسيتان رفعت سعر صرف الدولار في السوق السوداء:
– المحطّة الأولى: هي طرح الخطة الحكومية التي نصّت على رفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى 4300 في الأعوام
الخمسة القادمة. وهو ما رفع سعر الصرف من حدود الألفي ليرة للدولار إلى أربعة آلاف، ولم يُعاود بعدها الدولار هبوطه تحت هذا المستوى (Arbitrage Opportunities).
– المحطّة الثانية: وهي وقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مما أدّى إلى رفع هيكلي في سعر دولار السوق السوداء إلى مستويات الثمانية آلاف ليرة، ولم ينخفض بعدها السعر إلا لفترات قصيرة (لتحقيق أرباح).
بالإضافة إلى هاتين المحطتين، ساعد طبع العملة الذي قام به مصرف لبنان منذ إعلان رئيس الحكومة حسان دياب وقف دفع سندات اليوروبوندز وحتى الساعة، على رفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء نتيجة التضخّم الناتج من عملية الطبع هذه. لكن هل تعكس هذه المستويات في سعر الدولار واقع الليرة اللبنانية؟
على الصعيد الاقتصادي، الجواب قطعا لا! فالمعروف أن الطلب على الدولار الاقتصادي (بهدف الاستيراد) انخفض من 20 مليار دولار أميركي في العام 2019 إلى سبعة مليارات دولارات أميركي في العام 2020. وهذا يعني أن هذا الطلب انخفض بنسبة 65 % مما يعني أن الطلب على الدولار في السوق حاليا ليس بطلب اقتصادي!
في الواقع، هناك أجندات سياسية ومافيات تسرح وتمرح وحجمها في السوق أصبح كبيرا لدرجة أنها أصبحت تتحكم بمصير شعب مع غياب كامل للأجهزة الرقابية (الأجهزة الأمنية، وزارة الاقتصاد والتجارة، وزارة المال، ومصرف لبنان).
المعلومات المتوافرة تُشير إلى ضغوطات من قبل المُجتمع الدولي لوقف الدعم بالطريقة التي يجري فيها واستبدال هذا الدعم، بدعم نقدي مباشر للعائلات الأكثر فقرا. هذا الأمر واجه معارضة في اللجان النيابية الأسبوع الماضي حيث من المُتوقّع أن تتمّ دراسته هذا الأسبوع. وقد اعتبر بعض النواب أن قرض البنك الدولي يعتبر خرقاً للسيادة الوطنية. بالطبع هذه المُعارضة نابعة من منطلق سياسي (مشروع في العمل السياسي)، وبغض النظر عن تبرير معارضة هذا القرض أو الموافقة عليه، هناك حقيقة مُرّة على الأرض تتمثّل بالآتي:
أولا – هناك مُشكلة توافر الدولارات في مصرف لبنان، وهو ما يفرض وقف الدعم. أما إذا كان البعض يقول ان هذا الدعم يُمكن أن يستمر بفضل الإحتياطي الإلزامي، فإن هذا الأمر يعني أن أموال المودعين سيتمّ صرفها على الدعم، وهو أمر من الصعب أن يمرّ أمام الرأي العام، ولكن أيضا من قبل المجلس المركزي.
ثانيا – مُشكلة التهريب ومخالفة قانون قيصر ستدفع الولايات المُتحدة الأميركية إلى وضع مصرف لبنان على لائحة العقوبات. وفي هذا الحالة، لن تنفع الدولارات في الاستيراد نظرا إلى استحالة قبول دول تصدير بضائع إلى لبنان إذا ما تمّ وضع مصرفه المركزي على لائحة العقوبات.
ثالثا – مافيات التجّار والمهربين تعمد إلى الاستفادة من الدعم على حساب المواطنين. وأرباح هؤلاء التجار هي بالدرجة الأولى من الدعم (أي تتراوح بين 200% إلى 500%). وبالتالي فإن المواطنين لا يستفيدون عمليا إلا من القليل القليل. بالطبع من الصعب على التجار (الى أي قطاع انتموا) أن يُدافعوا عن أنفسهم نظرا إلى الفضائح التي تناولتهم في الفترة الماضية.
رابعا – هناك تآكل سريع بمدّخرات المواطنين الذين يُنفقون هذه الأموال على شراء المواد الغذائية والأساسية (بالطبع هذه الأموال تذهب بالدرجة الأولى لتغذية أرباح التجّار). والأخطر في العملية تكمن في أن رفع الدعم من قبل مصرف لبنان من دون توزيع قرض البنك الدولي على المواطنين الأكثر حاجة، سيرفع من الفقر المُدقع الذي سيؤجّج بدوره الشارع اللبناني وينشر الفوضى في كل مكان وسيحّل قانون الغاب كشريعة أساسية في لبنان.
من هذا المُنطلق، نرى أن على اللجان النيابية إقرار هذا القرض في أسرع وقت ممكن، نظرا للمخاطر العالية الناتجة من وقف الدعم من دون قرض البنك الدولي أو الاستمرار في الدعم بالطريقة نفسها وهو ما سيؤدّي إلى النتيجة نفسها.
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، فما كان يُسمّى بالطبقة الوسطى التي أصبحت بقسم كبير منها في الطبقة الفقيرة، ستُصبح فقيرة بالكامل مع تآكل مدّخراتها، نظرا إلى أن مداخيلها لا تكفي لتغطية الحاجات الأساسية، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الفقر (في حال توقف دعم مصرف لبنان) بشكل ملحوظ قد يصل إلى أكثر من 90%!
الأرقام الصادرة عن البنك الدولي، تؤكدّ التوجّه العام لنسبة الفقر. فتطوّر ديناميكية الفقر في ظرف عام واحد، يُثير الرعب، وهو ما يُبرّر تحرّك البنك الدولي وطلبه من وزارة الاقتصاد والتجارة تقديم اقتراح لتعديل آلية الدعم. هذا التعديل ينصّ على وقف الدعم عن كل شيء باستثناء بعض المواد الأولية (فيول، وبعض الأدوية#0236) على أن يتمّ استبدال هذا الدعم بدفع نقدي وإسمي للمواطنين اللبنانيين.
إن السياسات الاقتصادية والاجتماعية تضع أهدافاً سنوية لخفض نسبة الفقر في مجتمعاتها من 2 إلى 4بالمئة، في حين أنه في لبنان ارتفع الفقر المُدقع من 8 % في العام 2019، إلى أكثر من 23 % في العام 2020! فكم من الوقت سيلزم للعودة إلى ما قبل بدء الأزمة؟
من الواضح أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي خرج بالكامل عن سيطرة السلطات المحليّة، وهو ما يفرض دعماً خارجياً أصبح أكثر من ضروري: أولا للصمود أمام عنف الإعصار الذي يضرب لبنان، وثانيا للخروج من الأزمة الحالية.