رضوخ البعض في المكون العسكري لاعتراضات قادة “المجلس الأعلى لنظارات البجا” جزء من اللعب على المسار الأمني لشرق السودان (غيتي)
من يطّلع على بنود اتفاق مسار شرق السودان ضمن اتفاقية جوبا للسلام، الذي وُقّع عليه قبل عام في فبراير (شباط) الماضي، لا يشك مطلقاً في أن الاتفاق عالج جذور الأزمة في شرق السودان، وعلى رأس ذلك اعتراف الحكومة الحالية بأن حكومات السودان المتعاقبة كانت السبب في إهمال الشرق وتركه لكثير من التفاعلات السائبة والتهميش المتطاول، إلى أن أصبحت حاله كما هي عليه اليوم من حال لا يحسد عليها، إلى جانب المزايا الممتازة في ذلك الاتفاق.
بطبيعة الحال، إذا كان ثمة عقل سياسي للقوى الحزبية في شرق السودان، لكان من الطبيعي جداً أن يكون تثمين بنود الاتفاق أمراً مفروغاً منه، بما يؤدي إلى الفصل بين جودة الاتفاق وجدّيته، وبين النظر إلى أسلم طرق التوافق بين تلك القوى السياسية للشرق في ضمان تنفيذ هذا الاتفاق لمصلحتهم جميعاً.
وفي ظل الأنباء المتواترة عن ضغوط الإدارة الأميركية على كل من “حركة جيش تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد محمد نور و”الحركة الشعبية شمال” للالتحاق باتفاق جوبا للسلام، والترتيبات التي تعدّ لذلك خلال الأسبوع المقبل، هناك أنباء أخرى تفيد بدعم الولايات المتحدة وحرصها على تطبيق اتفاق جوبا بحذافيره، مما يعني كذلك، عدم إهمال مقتضيات بروتوكول مسار الشرق في التنفيذ الذي يقضي بأن تكون وزارة التربية في الحكومة الجديدة من نصيبه، إذ اتفق قادة الجبهة الثورية بغالبية وازنة على أن تكون الحقيبة من نصيب الأستاذ أسامة سعيد (رئيس مؤتمر البجا المعارض) وأحد قادة التنظيمين اللذين وقّعا على اتفاق المسار.
وبما أن هذه الوزارة لا تزال قيد التجميد، نظراً إلى ادعاء الحكومة ومجلس الشراكة بأن هناك مشاورات حول تعيين الوزير (فيما الحقيقة أن الوزير المقرر لها هو الأستاذ أسامة سعيد)، فقد قام الأخير عبر علاقاته السياسية بشرح الأمر لجهات دولية معنية بتطبيق مسار الشرق، لا سيما الولايات المتحدة. وعندما دعت السفارة الأميركية أسامة سعيد إلى تنويرها بما يحدث حقيقة بخصوص الاستبطاء الواضح حيال تنفيذ بعض بنود مسار الشرق كاستحقاق المسار لوزارة اتحادية منصوص عليها في الاتفاق (وقّع الاتفاق بين قادة الجبهة الثورية على أن تكون هي وزارة التربية)، قدّم سعيد في اجتماعه مع القائم بأعمال السفارة الأميركية براين شكان ونائبه والمسؤول السياسي في السفارة لي ويلبر، شرحاً وافياً حول الملابسات والصعوبات التي تواجه تنفيذ اتفاق جوبا للسلام بشكل عام واتفاق مسار الشرق تحديداً، إلى جانب مناقشة الدور المتعين للإدارة الأميركية في دفع عملية تنفيذ استحقاقات اتفاق جوبا لسلام السودان، حيث أكد السفير شكان في الاجتماع مع سعيد، على دعم الإدارة الأميركية لاتفاق جوبا لسلام السودان كحزمة غير قابلة للتجزئة، يجب الالتزام بتنفيذها.
في تقديرنا، إن وقوف الإدارة الأميركية مع الالتزام الكامل بتنفيذ بنود اتفاق جوبا بحذافيره، والضغط على كل من عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور للالتحاق باتفاق جوبا، يشير إلى إرادة حقيقية من الولايات المتحدة لإنجاح المرحلة الانتقالية في السودان، حيث رصدت الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، أكثر من آلية قانونية وإدارية واقتصادية لدعم المرحلة الانتقالية في البلاد على نحو صارم ودقيق. ويعني ذلك أن هناك من بين شركاء السلطة في المرحلة الانتقالية، من يريد إعاقة تنفيذ بعض بنود اتفاق جوبا، مثل الإرجاء الذي شهدناه بخصوص عدم تعيين أسامة سعيد في منصب وزير التربية كأحد استحقاقات مسار الشرق في الاتفاقية.
لقد بدا واضحاً من خلال تسريبات كثيرة أن البعض في المكون العسكري لا يريد تنفيذ بند استحقاق الوزارة الاتحادية لمسار الشرق بحسب ما اتفق عليه قادة الجبهة الثورية، من حيث أيلولة منصب الوزير لأسامة سعيد، نتيجة لضغوط من بعض الكيانات الأهلية في شرق السودان، مثل ما يسمّى بـ”المجلس الأعلى لنظارات البجا” والعموديات المستقلة بقيادة ناظر الهدندوة محمد محمد الأمين ترك، الذي لا يعترف بمسار الشرق، ويعترض على تولّي أسامة سعيد لوزارة التربية في الحكومة الجديدة لسبب ظاهري غريب، وهو أنه لا يعرف اللهجة التبداوية! (وهي لهجة تتحدث بها إحدى المجموعتين البجاويتين في شرق السودان).
وبما أننا على يقين من أن السبب ليس ما ذكره السيد الناظر، وإنما هو سبب آخر لا يمكن أن نجد له أي تبرير في إطار استحقاق المواطنة، أي من حيث أحقية كل مواطن سوداني في أن يكون وزيراً في كل مكان من السودان، وعلى الرغم من أن هذا الأمر هو بمثابة بديهية واضحة جداً، إلا أنه في ظل التدمير والتجريف الذي طال البنية السياسية لشرق السودان عبر سياسات النظام البائد لثلاثين سنة وتغيير تلك البنية ببنية قبائلية، أوحت لنظّار القبائل كما لو أنهم هم من لديهم الاستحقاق المطلق في تعيين من يشاؤون وعزل من يشاؤون وفق تقديرات لا علاقة لها بأي استحقاق من استحقاقات المواطنة، وإنما لها علاقة بمنطق قبائلي غريب لا يمتّ لا إلى السياسة ولا إلى المواطنة بصلة، أي منطق ما قبل الدولة.
ويقوم هذا المنطق على سردية يروّج لها بعض المقربين من الناظر ترك من هواة السياسة من منسوبي نظام البشير، تتصوّر الأمر على أن استحقاق البجا المطلق في التصرف على أراضيهم، يقتضي أن لا يتم تعيين أي وزير في أي منصب يتصل بإدارة شرق السودان إلا بمشاورة قادة “المجلس الأعلى لنظارات البجا” وإلا سيؤدي خلاف ذلك بالمجلس إلى التهديد بمقايضة السلم الأهلي في حال عدم الاستجابة له، أو إلى التلويح بخيارات فوضوية مثل ادعاء فصل شرق السودان (مع أن المجلس الأعلى لنظارات البجا ليس فيه إلا ناظراً واحداً من نظار البجا السبعة في شرق السودان، وأن هناك ستة من أولئك النظار مؤيدون لمسار الشرق ويمثلون الغالبية من الكيان البجاوي للمنطقة).
ولهذا يستغل البعض في المكون العسكري للسلطة الانتقالية هذه السردية العرجاء في خطاب المجلس الأعلى لنظارات البجا بداعي الحذر من ردود فعل أمنية خطيرة، ليمرّر ذلك البعض في المكون العسكري أجندته في إعاقة تنفيذ بعض بنود مسار الشرق. وربما الدفع بخيارات قد تخلط الأوراق بما ينعكس أزمات أمنية في الشرق!
وبحسب التسريبات، فإن قائمة ترشيحات وزراء الجبهة الثورية لا تتضمن ثلاثة خيارات تقدّم إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك كي يختار منها واحداً (كما هي الحال في ترشيحات قوى الحرية والتغيير)، بل يتم تقديم مرشح واحد فقط لرئيس الوزراء كي يعتمده، لهذا عندما أُرجئ منصب وزير التربية من قبل عضو عسكري كبير في مجلس الشركاء، لم يتصرف حمدوك بما كان يتعين عليه من عدم قبول ذلك التأجيل لمنصب وزير التربية، ولكن رئيس الوزراء (الذي تصرف من قبل بطريقة تعسفية في عزل والي كسلا صالح عمار وأدى تصرفه ذلك إلى ردود فعل دامية، راح ضحيتها سبعة شهداء برصاص القوات النظامية في 15 أكتوبر، إلى جانب مقتل أربعة في مدينة سواكن، واضطرابات نهب وسلب)، يبدو أنه خشي أن يتورط في ما يشبه حدث عزل صالح عمار بتعيين سعيد في منصب وزير التربية ضمن الحكومة الجديدة.
مع أنه في تقديرنا ليست ثمة علاقة بين السلوكين ــ إذا ما حسبهما حمدوك سلوكاً واحداً – لأن في ذلك إعاقة لمسار مشروع وهو أحد مسارات اتفاقية جوبا من ناحية، ولأنه في حال عرقلة استحقاقات المسار، ستكون هناك ردود فعل دولية مثل دعوة الإدارة الأميركية للسلطة الانتقالية إلى تطبيق بنود اتفاق جوبا كاملاً وبحذافيره.
لقد كان واضحاً، أن رضوخ البعض في المكون العسكري لاعتراضات قادة “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، هو جزء من اللعب على المسار الأمني لشرق السودان بهدف كسب مصالح تتصل بالمكون العسكري وتوازناته وأوراق لعبه أكثر من كونها تنفيذاً لموجبات استحقاق مسار شرق السودان.
وفي تقديرنا، أنه، وبحسب ما نص عليه اتفاق مسار الشرق، فإن هناك حقاً دستورياً يكفله المسار لمن تمت تسميتهم بأصحاب المصلحة والذين خصص لهم المسار مؤتمراً تشاورياً يستكملون فيه ما نقص من الاتفاق، وبذلك تحدد لهم الحكومة السودانية نصيباً مقدراً بنسبة 70 في المئة من السلطة لأهل المصلحة في شرق السودان، بعيداً من حصة الـ30 في المئة التي خصصها اتفاق جوبا لتنظيمي مسار شرق السودان وهما: الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة ومؤتمر البجا المعارض.
قادة “المجلس الأعلى لنظارات البجا” يراهنون على تخصيص منبر تفاوضي مستقل له، يُدرج كملحق في اتفاق جوبا (وهذا شبه مستحيل كما أفادت الوساطة بذلك للمكون العسكري)، لأن في المؤتمر التشاوري لأهل شرق السودان الذي يشمل أصحاب المصلحة جميعاً (بمن فيهم المجلس الأعلى لنظارات البجا)، يمكن استكمال بقية ما نقص من بنود أو ملاحق تضاف إلى مطالب أهل الشرق من السلطة، خصماً من سلطة الحكومة المركزية أي من الـ 70 في المئة (كما جرى الأمر بالنسبة إلى أهل المصلحة في دارفور)، ولأن أهل المصلحة في شرق السودان – ما عدا تنظيمَي مسار الشرق – يمثلون كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والإدارة الأهلية، فإن المجلس الأعلى يرفض أن يكون جزءًا من حزمة أهل المصلحة في شرق السودان، ولا يقبل المشاركة في المؤتمر التشاوري لشرق السودان إلا بعد ضمان حصة مستقلة من السلطة عبر منبر مستقل، وهو منبر لا يعرف حتى الآن كيف يمكن تأمينه، ولكن في الوقت ذاته تتم عرقلة بعض بنود مسار الشرق بسبب المنبر!
هكذا سيبدو واضحاً أن العقل السياسي للقوى الحزبية في شرق السودان عاجز عن رؤية المصير السياسي الرشيد والمصلحة العامة في البنود الممتازة التي توفّر عليها اتفاق جوبا لمسار الشرق ومخرجات المؤتمر التشاوري الملحق به، لكن من المؤسف القول إن البنية الحزبية للكيانات التي تمارس السياسة بمنطق القبيلة في شرق السودان نتيجةً للتخريب الذي أحدثه نظام البشير في البيئة السياسية هناك لـ 30 سنة، ما زالت مسيطرة على توجهات تلك الكيانات، وإن النتيجة الحتمية لهذه الأساليب السياسوية الفجة في إهدار المصلحة العامة لأهل الشرق والمزايا الممتازة التي كفلتها لهم بنود مسار شرق السودان والمخرجات المحتملة للمؤتمر التشاوري، ستكون عواقبها وخيمة، ما لم يتدارك عقلاء الشرق هذا الخطر، وما لم تتخذ السلطة الانتقالية في الخرطوم القرارات التي تصبّ في المصالح الاستراتيجية للثورة ولشرق السودان، بعيداً من ضغوط الفوضويين وألعاب الانتهازيين!